رعية دير مار الياس - أنطلياس
أنطلياس في 2007/3/3
 الحركة الثقافية - أنطلياس


يا حامِلَ الرسالتين
اللاهوت والفلسفة
اللاهوت كاهنًا والفلسفة أستاذًا

                ندوة الأب يوحنا قمير
 

        عنــدما قيـــل:

        يُحَيَّ الأبُ يوحنا قمير انطلاقاً من آل قمير الكرام على مشارف لبنانَ كلِّّه وعلى أرض تنورين بالذات أرضِ الشَّمال العابقة برائحة القداسة. أقول حيث الكاهن هناك الخدمة، فأنّى لي هذا الشرفُ وأنا كاهنُ الخدمة على هذه الأرض، أن أكون في تحية أحد أعلام من بلغ الملء، هنا، الفانية، في عطاءآته، ليستحق، هناك، الخالدة، مجد القيامة، في راحته. وهل من بلغ أدراج الملكوت فملءَ الحب، مع الله حبورًا بحضرته، يزدان بتكريم بني التراب ؟ حاشا، فهو يفرح أننا بتحيته نتشرفُ فنتكرّم، وتتبلسم الأفئدة بفقد الغالي، فما قيمة التكريم مقارنة بما ينعم به، مغتبطًا في قلب الله؟

       عنــدما قيــل : يُحيَّ:

        لم تبقَ رُخامَةٌ على مذابحنا ولم تتحوّل الى عليّة صهيون ..

        لم تبقَ أبجديّة إلاّ تحرّكت لكتابةِ وطَن ..

                                   فيا حامل الرسالتيْن ..

        رسالةِ الدّيْن كهنوتاً ... ورسالةِ الدُّنيا فكراً وفلسفة وأدبَا.

        سألنا الأولى عنك؛ قالت : مِشعلي ‍‍!..

        هذا هو، على أدراج الهيكل، أمام رُخامةِ المذبح، وبين يديَهِ القربانةُ الأعجوبة، مرفوعةٌ فوقَ الكأسِ العلويّة، يُسلْسِلُ عشاءَهُ السرّي، على الجياع الى جَسَدِ الفادي، الظمآنين الى دَمِه، فتعبُرُ الأسرارُ السماويّةُ بأنوارِها، الى عيونِ المؤمنين، بعبيرها الى شميمِ المصلّين، بألحانها الى آذان المرنمين، بخمرتها، الى حنايا المنْتَشين بعنَبِ الجنّة.

                سألنا الثانية عنك؛ قالت: مَنارَتي !.

        هذا هو، على عَتَباتِ الوطن ... لبنانَ الصغيرِ الذي لفَّ خريطةَ العالم بِصِغَرِه...  ناسكِ الفكر والثقافة والعلم والمعرفة.

        حملَ صوْتَهُ الى كلِّ مُعْتَرَكٍ وساح ... وكأنَّهُ يحمل صليبَهُ الى جلجلة وطنه!.

        ما خانَهُ صبْرٌ ولا ضارعته بطولة.

        إجتاز النارَ والحديد، إبّان المحنةِ السوداء، في دَرْبهِ الى البَذْلِ والعطاء .. لا تَصُدُّهُ رهبَةٌ، ولا يَثْنيهِ رُعْب ... يوزّع خيوط عباءته مِظلَّةِ السماء على الخائفين، ينثرها حبّاتِ بَرَكةٍ في مواسم الخير والجَنى ..

        وقالت: ما نزَلَ بلبنانَ ضيْمٌ، إلاّ رأيناهُ، على الجرحِ حانياً ومضمّدا !.

        ما دُعيَ الى حقلِ جهاد، إلاّ وكان السبّاقَ الى اقتحام الصّعاب .. إلاّ وكان السّيفَ المُسلةَ اللاهبةَ في رقاب المؤامرات ... إلاّ وكان الرّحمةَ تُهدى الى قُساةِ القلوب ... إلاّ وكان الغفرانَ، يهُزُّ به ضمائرََ المجرمينَ.

        إلاّ وكان صليباً على صدر، يردُّ به سهامَ الغادرين.

        ما نَزَلَ بلبنانَ تقسيم، إلاّ وغيثُ صلواتِهِ يَهِلُّ على المخدوعين وحْدَةً ونجاةً وانصهاراً وعيشاً مشتركاً وسينودساً نورانيًا، سَتَحسِدُنا الأجيالُ المقبلة ...    لأنّناعاصَرْناه.

 يا وليًا علمنا،

أنّ اولياء الله

همُ الذين نظروا الى باطن الدنيا

اذا نظر الناسُ إلى ظاهرِها،

واشتغلوا بآجِلها

إذا اشتغلَ الناسُ بعاجِلها

فأماتوا منها ما خشُوا ان يميتهم،

وتركوا منها ما عَلِموا أَنّه سيتركهم،

ورأَوْا استكثار غيرهم منها استقلالاً،

ودَرَكَهُم لها موتاً،

أعداءُ ما سالم الناس،

وسِلْمُ ما عادى الناس،

وفي صيف 2004 كتب الأب يوحنا:

"لا تخفِ الموت، على رهبته، بل خفِ الحياة...." وكأنه يردد صدى ما جاء في سفر يشوع  بن سيراخ: "لا تَخَفْ مِنَ الموتِ وتَذَكَّرْ، أنَّ الأَواخِرَ يَموتونَ كما ماتَ الأَوائِلُ.4هكذا الرّبُّ قضَى على كُلِّ حَيٍّ، فكَيفَ تُقاوِمُ ما اَرْتَضاهُ الرّبُّ وفي الجَحيمِ لا حِسابَ على العُمرِ، أعَشْرُ سِنينَ أم مِئَةٌ أم ألفُ."

وأتابع ما جاء في سفر يشوع بن سيراخ، وينطبق على من نحي:

"والآنَ دَعونا نَمدَحُ المَشاهيرَ مِنْ آبائِنا الذينَ سَبَقونا،2والذينَ مَجَّدَهُمُ الرّبُّ كثيرًا وَعَظَّمَهُم مُنذُ البَدءِ.3فكانَ بَعضُهُمْ أسيادًا في مَمالِكِهِم ورِجالاً قادِرينَ،4وكانَ بَعضُهُم مُستَشارينَ وأصحابَ نُبوءاتٍ وكانَ بَعضُهُم قادَةً يَفهَمونَ شَرائِعَ البِلادِ، ويُخاطِبونَ أهلَها بِفَصاحَةٍ.5بل إنَّ بَعضَهُم كان يُؤلِّف الألحانَ الموسيقيَّةَ ويَنظِمَ الشِّعرَ.6وكانَ مِنهُمُ الأغنِياءُ وَالعُظَماءُ الذينَ عاشوا في بُيوتِهِم آمِنينَ.7أُولَئِكَ كُلُّهُم نَعِموا بِالعِز بَينَ قَومِهِم، وكانوا فَخْرًا لِزَمانِهِم.8مِنهُم مَنْ خَلَّفوا اَسْمًا يُذكَرُ بِمآثِرِهِم،9ومِنهُم مَنْ لا ذِكْرَ لهُم كأنَّهُمْ لم يكونوا. ماتوا واَنْدَثَروا، وهكذا أبناؤُهُم.10وما هكذا آباؤُنا، بل هُمْ أتقِياءُ وأعمالُهُمُ الصَّالِحَةُ لا تُنسَى.11ذِكرُهُمُ العاطِرُ تَتَوارَثُهُ ذُرِّيَّتُهُم. ما دامَ هؤُلاءِ على عَهدِ الرّبٌ باقينَ كآبائِهِم.12وهُم لا شَكَ باقونَ على العَهدِ جيلاً بَعدَ جيلٍ.13لِذلِكَ يَدومونَ إلى الأبدِ، ولا يُمحَى مَجدُهُم.14أجسامُهُم تُدفَنُ بِسلامِ، لكِنَّ أسماءَهُم تَحيا مدَى الأَجيالِ.15الشُّعوبُ يُحَدِّثونَ بِحِكمَتِهِم، وجماعَةُ المُؤْمِنينَ تُنشِدُ لهُمُ المَدائِحَ."

         يا روحه الحي  !.

        فيا ليتك تعلم !.

        أنّ هذا الوطن

        حَمَلكَ في وِسْع قَلبِه

        بقدْرِ ما حَمَلْتَهُ في وِسْع قلبك !.

        وأنتَ في مسيرةِ الرسالتين

        لَمجْدِ اللهِ في العُلى ..

        وللسلام على الأرض !.

        ويا صاحب الرسالتين.

        ليت الوطن... والشرق... والعالم ...

        تعرف كم أحببناك !.

وأنت تخاطب أرض لبنان :

إني تركتُ على هذا الترابِ دَمي

                                        فهَلْ أُلامُ اذا قبَّلتُهُ بفمي؟

في كلّ صخرٍ هُنا من خافقي نغمٌ

                                        هلاَّ سألتُم صخورَ الدير عن نغمي؟

        كم وقفةٍ لي على أدراج معبَده

                                        أستنزلُ الله في اللمّاح من نُجُمي

        صنوبرات الحمى بالأمس ما نسيتْ

                                        أَني بَريْتُ على أغصانها قلمي.

 للحركة الثقافية أنطلياس، شرف تحيتك
    الأب جوزيف عبد الساتر
رئيس الحركة الثقافية أنطلياس

 

ندوة الأب يوحنا قمير                      

كلمة د. منوال يونس

أشكر الحركة الثقافية - انطلياس التي اتاحت لي إلقاء هذه الكلمة المختصرة في مناسبة ذكرى الأب يوحنا قمير، آملاً ان تكون هذه المناسبة فاتحة جهود فكرية ينبغي على المثقفين اللبنانيين وعلى المؤسسات الفكرية والتربوية في لبنان القيام بها سعياً الى تعريف إرثه الثمين وما ينطوي عليه من آفاق فلسفية وأدبية ووطنية.

كلنا يعرف الأب يوحنا قمير: الرجل الرصين الهادئ الرحب الصدر والافاق، المشبع بروح التسامح الوفاق والتؤدة، والمتبصر في كل كلمة يقولها وفي كل رأي يبديه. وقد تكون صفاته هذه اولى السبل الى معرفة أبعاد شخصيته وملامح أسلوبه والى التعمق في فهم نتاجه الفلسفي والأدبي. فالتبصر والتؤدة والروية والانفتاح هي من صفات المفكر الأصيل. وقد لا نج في تاريخ الفلسفة مفكرين كباراً لا يتسمون بمثل هذه الصفات.

في مقابل هذا النمط من الجدال يذهب بعض السذّج الى القول بأن مثل هذه الخصائص يدل على تردّد في ابداء الرأي وفي اتخاذ القرار السريع الذي يبهر الكثيرين من الناس. وها هو التاريخ يشهد على انه كلما أتاحت مراحل التردّي في حياة شعب لأن يتولّى الوقّح والمتهوّرون منابر الرأي والقرار، كان من نصيب هذا الشعب القهقري والخراب.

ان أشدّ ما دفع الأب يوحنا قمير الى ان يضع مؤلفاته وأبحاثه القيمة في الفلسفة وفي الأدب العربيين وما جعله يسعى بإصرار الى إدخال مادة الفلسفة في مناهج التعليم الثانوي والامتحانات الرسمية هو دأبه الشديد على احلال العقل الحرّ مكانه الأول في إنهاض الثقافة العربية انطلاقاً من معاهد لبنان وعلى أيدي مفكرين لبنانيين. وهو في ذلك سار على تهج المعلمين اللبنانيين الأوائل الذين انطلقت نهضة الثقافة العربية على أيديهم منذ أواخر القرن التاسع عشر.

فكلنا يعلم ان فقيدنا العبقري عمل طوال حياته المديدة عبر خمسة آلاف صفحة من الإنتاج الفكري المميز. وخلال خمسين سنة من التعليم العميق الأثر في النفوس في خدمة دور لبنان الحضاري الذي لا دور له سواه. كما أغنى الثقافة العربية بثقافات الشرق الأقصى والغرب من خلال دراسات بصورة خاصة التراث الهندي والصيني بعمق وتفصيل.

هنا لا بد لي من التوقف وان باختصار عند أسلوب الأب قمير الفلسفي والأدبي النادر المثيل في عمقه وجماله متسائلاً هل بين الكتّاب المعاصرين في العالم العربي من يفوق فقيدنا في مجال الجمع بين أبهى الجمال في التعبير وأرقى العمق في التفكير؟ اذ ان لغة الحكمة قلما عبأت بفنون الصياغة كما ان الأسلوب الأدبي الجميل قلما تميز بالبعد الفلسفي وفي ذلك يكمن الفارق بين الأديب والفيلسوف. لذلك من يقرأ يوحنا قمير يدهش أمام هذا الجمع النادر بين العمق الفلسفي والأسلوب الادبي الأنيق في جميع مؤلفاته.

ان ارتقاء الأسلوب والمضمون في إنتاج الأب يوحنا قمير الى هذا المستوى من الجمال والعمق هو دون ريب تخطّ للمعروف والمألوف. لذلك تبدو كل كلمة في مؤلفاته وكأنها منحوتة من ذات مادة معناها. فالأناقة، لا ننس، هي بعد من أبعاد الحكمة. وكم كان الأب قمير انيقاً وحكيماً!! لذلك لم يكتف بان يكون كاتباً كبيراً بل حرص على ان يكون مفكراً كبيراً اذ تخطى في كل ما كتب جمال الكلمة الى جمال الفكرة لذلك يحار القارئ من شدة تأثره بجمال لغته وعمق فكره متسائلاً في ايهما الجوهر هل في لغته ام في فكره. الجواب دون ريب هو في لغته وفي فكره. من هنا الدعوة الى التعمق في دراسة هذا الأديب الفيلسوف النادر المثيل في العالم العربي.

 

 الأستاذ أحمد طباره في ندوة

محبو الاب يوحنّا قمير مع حفظ المكانةِ والصفة

أذكرهُ وكأني به مُنشداً مع الحلاّجِ مناجياً ربّهُ قائلاً...

لي حبيبٌ حُبّه فوق الحشا                      إن يشا يمشي على خدّي مَشا

روحُه روحي وروحي روحُه                    إن يشا شئتُ وإن شئتُ يشا

 

عرفتَهُ مذ كنت يافعاً أقتبس منه مفاهيم الفلسفةِ العربيةِ الإسلاميةِ لأتحضّر لإمتحاناتِ البكالوريا حينَها .

تركتُ الكلّيةَ ودخلتُ الجامعةَ وانخرطت في الحياةِ وهو لا يزالُ معي في كلّ أطروحةٍ وأغنيةٍ ومعضلة ، بحثت عنه وتلمّستُ خطاه ودأبتُ أراجع ما يكتُبُه وأصرّيتُ على مقابلتهِ بعد أن ناهـزَ التسعينَ فإذا هـوَ هـوَ كما عرفتهُ ، تعلو وجههُ إبتسامةُ الطفلِ وتلمع عيناهُ بحب المعرفةِ ، يسألك همساً ويجيبك ابتساماً كأنه في هذه الدنيا يزورُ ومن خلالها يتأمل بمحبةٍ ولهفة ، لا يعتريه غضبٌ ولا تثير تعجبهُ معضلةٌ فرحاً دائماً بإجاباتهِ غاضاً النظر عن سطحيتنا تغمرهُ هالةٌ من الرضَى ويرفعُ من شأنه توقٌ لحنينِ معرفة وتساؤلٌ عن يقين يعلم أنه ليس بيقين .

تركتَه سنيناً طويلة ولكن السنونَ لم تترك عليه الا نوراً خاصاً زادَني شوقاً لمعرفتهِ ، فما كان مني الا ان أصفهُ كما رأى الحلاّج نفسهُ أمام ربه فذكرت هذه الابيات علّي أعطي صورة عن هذا القس الصوفي البوذي المنعتق من كل شوائب التفصيل يسمو كما هو الآن وحرارةُ ايمانه تحتضنُ هذا المكان الذي نحنُ فيه ... هوغائبُ ...لا هو بيننا ، هو نفسٌ طاهرةٌ متساميةٌ تحوم الآن حولنا ... دخل في وجداننا، إخترق سرائرَنا وكان مع الكبار الكبارِ صديق .

في نزهته الفكرية تسامر مع خلاّنه وتحاكى ، وكالفراشةِ رشف من كلّ زهرةٍ رحيق ، تبسّط مع حجة الإسلامِ الغزالي وفكّكَ لنا عقدة الإيمان بنورٍ قذفهُ الله في الصدرِ وفاض مع الفارابي مجسداً أهمية العقل الأول ومع إبنِ طفيل شرح بداهة الإيمانِ وكشف المخزون من علم ابن سينا ، غنّى مع الكندي ومع إخوان الصفاء اصطفى ، أخرج من صدر ابن خلدونَ علم التاريخِ ومع ابن رشد التقى . مع المعرّي توقف ، توقفَ ولا يزال كأنه يعيش معنا الآن في وسط بيروت وردّد معه هامساً باسماً حزيناً دامعاً واصفاً ما نحن فيه ، ردد معهُ...

 

في اللاذقية فِتنةٌ ما بين احمدَ والمسيحَ       قسٌ يعالج دَلبةً والشيخ من حنقٍ يصيحُ

                   كل يعزز دينهُ            يا ليتَ شعري ما الصحيح

 

لم يرتوِ من اصحابه هؤلاء ، فذهب يبحثُ عن معلميهم لانه كان يعي منذ بَدء ابحاثه ان لبنانَ رسالةٌ لأن الله اراد له ذلك فهو همزةُ الوصلِ بين الشرق والغربِ وهو حديقةُ الفكرِ يقطف من ازهارها كل مريد ، فذهب اذاً الى المعلمينَ الاوائل لينهلَ من منابعهم وليزيد معرفتَنا ، دخل عالم اللغةِ السانسيكريتية ليفهم النصوصَ بروحها وعبَر على معاني اليوغا ومن هو البوذا ، ترجم نشيدَ المولى وتوقف مع راما كريشنا وطاغور ومن عصارة الفكر الهندوسيّ والبوذي عرّفنا على الماهاتما غاندي .

كان ذلك مع الاوائل ومع نيتشي وجبران شرح بجرأةٍ واختلف برقةٍ ، قال ...

(لدى نيتشي وجبران قمح وزُؤان ومتى احجم العاقل عن حصادِ قمحهِ اذا ما خالط القمح الزؤان ).

تذاكرَ مع اصدقائه هؤلاء منهم من كان قبل التاريخِ ومنهم من اتى بعدهُ ، تذاكر مع هؤلاء جميعاً ومن ثم ارتقى ، اخذ واعطى غير انه مع الشيخِ الاكبر ابنُ عربي توهّج نور الايمان في عينيهِ واضاء ، ردد معه بفرحٍ ولا يزال يردد ...

لقد صارَ قلبي قابلاً كل صورةٍ                        فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ

وبيتٌ لاوثانٍ وكعبةُ طائفٍ                           وألواح توراةٍ ومصحفُ قرآنِ

أدين بدينِ الحبِّ أنى توجهَت                      ركائبهُ فالحبُ ديني وإيماني

 

يوحنا قمير قس في جلبابٍ صوفي تعلوه هالةٌ بوذيةٌ يشعشع منها نورٌ الهي يحتضنُ المكان ، كلّ مكان من خلال إشراقةٍ روحيةٍ حاضنة ، يأخذُ بيدك برفق ويحنو عليك بعطفٍ ، يرفع من شأنكَ برأفة ، يفهم ضعف القسوةِ ، ويعي قوة اللينِ، إذا كلمك همس وإن اختلف معكَ ابتسم ، تميلُ اليه من حيث لا تدري وبدفىءِ فكره تحتَمي ، ذلك ان لسانَ حاله كان دائماً يردّد ...

ان قلتُ المحالَ رفعت صوتي                      وان قلت اليقينَ اطلتُ همسي

 

على يديه تتلمذَت أجيالٌ فأعطى وأعطى وتدفّق وبين كل عطاءٍ وعطاءٍ عطاء ، نبعٌ فيّاض لا ينضُب وقلبٌ خفاق دائماً ينبض .

غير أن هذا القلبَ تعبَ وطلبَ الراحةَ ، طلب من صاحبه الهدوء فلبّى بابتسامته المعهودة واذن لقلبه بالسكون .

توقف قلب يوحنا قمير وتمدد صاحبه كما كان يشتهي اذ كان يقولُ لنا دائماً...

 

(تمدّد في فيء وضع فيه قطعةً منك ،لا بركةً في الحركة)

كأنهُ يقول ...

جسدي خِرقةٌ تُخاطُ إلى الأرضِ                 فيا خائِطَ الخلائِقِ خِطني

ترك جسده مع الارض ، وفي نعمة الفيض الالهي تمدد بسمةُ اللقاء تعلو وجهَه ونور الله يغمره .

نتذكره وانا اكيد انه يسمعُنا نتذكره ونقول له يا شيخَنا بحق صليبك ليتك كنت معنا اليوم لترى وتسمَع كم نحن نحبك .

د. سهيل مطر

 

في هذا الزمن المفتوح على الدم والوجع والفوضى، في هذه الساحة المبللة بالدمع المصادرة لأجراس الحزن وأشباح الغربة والدخان والفجيعة، نعود الى الحركة الثقافية في انطلياس نستل او نستلهم نفس حرية وفن وجمال، ونعود الى الأب يوحنا قمير، نلملم من اقواله وكتاباته بعض الحب والفرح.

فتعالوا ايها الأصدقاء نستحضر الأب قمير:

تراه، يدخل الآن، الى القاعة، انظروا اليه، لا يرى، خفيفاً كما الطيف، "زنه قرنفلة واشمخ به جبلاً" لا يسمع له صوت، كما لو انه الظلّ، يمشي هادئاً متمهلاً، كأنه:

"طير مرق      على رؤوس الحبق

كأنه ما جنى    كأنه ما سرق"

حزين، الأب قمير، وهو يدخل.

نركض اليه، نستقبله: اشتقنا يا بيي.

يبقى على هدوئه وصمته، يجيل عينيه في هذا الحضور الكريم، في الأخوة والأقارب، في الزملاء والطلاب، في أهل الفكر والمعرفة... وما بين دمعة وابتسامة، يُغرب عينيه، يدور على نفسه... ما بكَ، أب قمير؟

يعود أدراجه، يكاد يغادر، يأخذ مجموعة أوراق من قنبازه الأبيض، يرميها في احدى الزوايا يتخلّى عن كل شيء، يعود الى الرحيل.

أب قمير، احكِ معي... أكاد اتمسك به، ولكن الحلم ينتهي، أركض الى تلك الزاوية، أعثر على بضع رسائل، مكتوبة بالضوء، بخط صغير، بكلمات قليلة وموقعة: الأب يوحنا قمير.

دعوني أقرأ لكم فصلاً من رسائل الأب يوحنا قمير، موزعاً على سبع وريقات فكونوا في سكوت، ايها السامعون:

1- الرسالة الأولى موجهة الى الطلاب، طلاب الأب قمير، وهم كثر هنا وهناك:

أشهد امام الله انني ما علمتكم درساً تخجلون به: أخذت من زردشت، من بوذا، من يسوع، من محمد، من فلاسفة العرب والإسلام، من حكماء فارس والهند والصين، من نيتشه وجبران، واعطيتكم... وهؤلاء ما علّموا سوى الحكمة والفرح والمحبة والجمال. طريق هؤلاء هي الطريق الى الحرية. هؤلاء ما علموا العنف والتعصب والسياسة البلهاء... اوصيكم، تابعوا طريقهم، جميل ان نحطّم جدران السجون ونخرج ولكنّ الأجمل ان نخرج من سجون لا جدران لها.

2- الرسالة الثانية موجهة الى المكرسين لعبادة اله، زملاء الأب قمير من رجال دين وراهبات: لا،لا... ونعم نعم... لا تنسوا.

الله ليس بحاجة الى من يدافع عنه، هو بحاجة الى من ينير الطريق اليه. لسنا من ابنائه وبناته ان لم نضرب بعصينا من حوّل بيتنا الى مغارة للصوص.

3- الرسالة الثالثة موجهة الى اهل السياسة: نحن بحاجة الى عظماء، لا الى زعماء، والفرق كبير بين عَظُمَ وزَعَم، حيث الكثير من الكذب والنفاق والثرثرة، واتوجه الى القادة لأقول لهم: ماذا ينفع الانسان لو حقق شروطه كلها، لو ربح العالم كله، وخسر وطنه؟ انتم المسؤولون عما انتهى اليه الوطن، والله لن يرحم ولا المستقبل ولا الضمير.

4- الرسالة الرابعة موجهة الى اهل الفكر: لك لبنانكم، لا تستبدلوه بآخر. رصاصات القلم أشرف بكثير من رصاصات العنف والقتل. بهذا القلم تعمّرون لبنان الحضارة والحرية والجمال، لا تحطموه ولو كفروكم ويأسوكم وباعوكم بثلاثين بندقية او قبلة. وعلّموا الناس أن: ليس الشرف الرفيع ان يقتل الأخ أخاه، فإن فعلنا فلنرفعن تماثيل لقايين.

5- الرسالة الخامسة موجهة الى تنورين: اغفو في ترابك واعتز، انت مدينتي، وانا مدين لك بالكثير؛ منحتني من جرودك واللقلوق، صفاء المبدعين ومن نبل اهلك الفقراء الأصايل ميرون العافية والبركة. اما صباياك وابناؤك يا تنورين،

فازرعين بالوعر، ارز وسنديان

ملوا الزمان

وقوليلهم لبنان

من بعد الله، يعبدوا لبنان

6- الرسالة السادسة موجهة الى الاهل: أتبعكم في الزمن الأخير، فسامحوني. ما تركت لكم سوى اسمي، محفوراً على غلافات قلوب طلاب او في ذاكرة اصدقاء ومحبين. هم جميعاً احبهم كما احببتكم فلا تستثنوا احداً، وانا من اجلكم، ومن اجلهم، أصلي.

7- الرسالة السابعة موجهة الى الحركة الثقافية انطلياس

شكراً لكم، في زمن اللعنة، انتم هي النعمة، أبناء الكلمة انتم، مجدوها فان لونها غيركم او شوّهها، حافطوا عليها انتم، بريئة كالعذراء، نقيّة كثلج اللقلوق، طاهرة كقلوب الأطفال، وعلّموا الآخرين هذا البيت من الشعر:

جراحات السنان لها التئام       ولا يلتامُ ما جرحَ اللسانُ

أيها الأصدقاء

بقيت رسالة أخيرة لم يكتبها الأب قمير، بل علمني اياها، هي أن أحب، ويوم كتب كتابه "السعادة امرأة" خلت انني عُنيت ولم أكسلْ ولم أتبلد، وها انا اهدي روحه الطاهرة كتابي الجديد: كتاب للحبّ في زمن الحرب...

آه، كم نحن بحاجة الى حبّ. فهنيئاً لك دنيا الحبّ في عليائك. وسلام لك، يا معلّم - وما أكبرها كلمة - وسلام عليك،

صلّ من اجلنا، وقلْ له في جنّتك: لا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من...

أترك لكم أيها الأصدقاء النقاط الثلاث،

 

وليحيَ الأب قمير
لتحيَ الحركة الثقافية
وليحيَ لبنان
 


شهادة في الأب يوحنا قمير
بقلم : انطوان سيف

 

الواقعة معروفة وان كانت نادرة. تلك الصداقة التي لا تحتاج الى تكرار اللقاء والملازمة لكي تتأصل وتترسخ، ولا ان تُراكِم السنين لتستوثق من نبل مشاعرها؛ المرَّات القليلة التي جمعتنا، الأب قمير وأنا، على تباعدها عن بعضها بالزمان والمكان، كانت تستبطن تماسك تسلسلها وتراكمها كأنها لقاءات تجسِّر دائما ما بينها  ناسجةً ودّاً متبادلاً ضنَّت الأيام والمشاغل وأقدار الجغرافيا بتحويله إلى صحبةٍ ورفقةٍ لا يرى البعض منها بدَّاً في كل صداقةٍ! خجلتُ منه مرّةً، ومن نفسي، حينما ذكرَّني هو بهذا التواصل الودي، على الرغم من الانقطاع الزمني، وكأنه يعاتبني على محاولتي إنعاش ذاكرته عن ذلك اللقاء لنا معاً، في ندوة قمت بإدارتها حول كتابه "نيتشه: نبي المتفوِّق" الصادر حديثاً يومذاك الذي أثار حفيظةَ من يعتقدون أنهم قيمون على الفلسفة النتشوية عندنا، وفجَّر كمّاً من الانفعالات الغاضبة والهادرة ضد الكتاب ومؤلفه صاحب الثوب الكهنوتي الذي اتهم بالتطفُّل على حقل لا باع له فيه، والتقصير بالوفاء بموضوعه، والأقسى انحيازه الضمني ضد موضوع كتابه! لما عرف عن نيتشه من مواقف ضد الأديان عموماً، والمسيحية بشكل خاص. والمعروف ان مثل المنازلات الجامحة هي أقصى عتبات الامتحان والمحنة التي يمكن ان تواجه مدير ندوة فكرية فالندوة تتطلَّب من مديرها، بدءاً، تعريفاً بالكتاب ومؤلفه، لا يخلو من تقييم أوّلي هو في الأصل شهادة جدارة هي التي سوغت اختيارنا له لندوة مناقشة. وبدت لي بعض تلك المداخلات النقدية، وهي الأكثرها ضوضاءً، متحاملةً فاصلة معاني الجمل عن سياقها التي لم تأبه له كثيراً، والأرجح أنها لم تتوقف على تفاصيله في قراءة مدققة لمضمون الكتاب ولأبعاده. وإذ كانت تقاليد مثل هذه الندوات ولا زالت تقضي بأن لا يجيب المؤلف على المداخلات إلاَّ في آخر الندوة، وإذ كنتُ اتكهَّن التجهُّم على وجه الأب قمير، والتوثب لردّ إساءة الفهم عنه، كنت لدهشتي أرى بسمةً خفيفة لم تفارق محياه الهادئ لا يعكرّ صفحتها أيُّ حجر. وحسبتُ أن حيادي في تلك البرهة سيمسي إمعاناً في ظلم الكتاب أمام الجمهور الغفير المستمع ناهيك بالإعلام اللاحق عن وقائع الندوة. فأشرت الى مقاطع وجمل في الكتاب تنفي تلك التهم وتبرز حرص المؤلف على نقل الأفكار التي "ربما" لا يؤيدها بدقة بالغة. أقول "ربما"، لأن هذه الدقة بالذات في نقل نيتشه وقراءته هي التي حيَّرتني. أيكون الأب قمير، وفي هذه المرحلة الثمانينية من عمره، وبثوبه الرهباني الذي لازمه كل تلك العقود العديدة، على منعطف فكري إيماني يكتمه ويؤمئ إليه دون صريح الكلام موقف عرفه قبله أوغسطين، والغزالي وسواهما؟ فالمداخلات العاصفة هذه، بدت لي مغرقة في أحكامها المسبقة، ساذجة لم تستطع رؤية لقاء بين الثوب الكهنوتي والفيلسوف الألماني المعادي. ولئن تنبَّهتُ الى الجانب التعليمي البيداغوجي الذي قصده الأب قمير بتعريبه نيتشه، كما قال في بداية نص تمهيد كتابه من أن لا بدّ للفكر العربي من معرفة فلسفة نيتشه الداعية الى القوة بإزاء الضعف والعجز المرادفين للانحطاط، سألته في آخر مداخلتي، قبل أن أعطيه الكلام لختام الندوة، عن المسوِّغ الفعلي لتأليفه بالعربية كتاباً كلاسيكياً لا يضيف شيئاً كبيراً عما هو معروف من دراسات جمَّة في اللغات الغربية خصوصاً، ختم الأب قمير قائلاً أن أكثر أجوبتي عن المداخلات قد قالها مدير الندوة؛ وأكد ان تعريب نيتشه هو مشروع ثقافي وفكري من أعلام النهضة العربية الحديثة وهو اللبناني جبران خليل جبران، وينبغي، استمراراً لهذه النهضة، حضور الثورة النيتشوية فيها. وأفصح الأب قمير عن مشروعه إعادة قراءَة جبران على ضوء المؤثرات التي أسهمت في تشكُّل شخصيته المميزة في تاريخنا الحضاري.

بدت لي وله بأنها تنطلق من مواقف مسبقة لقراءةٍ  لم تأخذ حظها من التأني والدقة، ولم تلتفت إلى الجانب الثقافي والبيداغوجي من تعريب نيتشه الذي أسهم في تشكُّل أبرز شخصية في نهضتنا العربية الحديثة هو اللبناني جبران خليل جبران. رمزية اللقاء الجبراني النيتشوي وتشظياته النهضوية باتت هاجساً كبيراً لدى الأب قمير في منتصف ثمانينات القرن الماضي (1986).