يوم المعلّم  
تكريم الأم الرئيسة دانييلا حرّوق
 والدكتور هشام نشابه
فـي 9 آذار 2007

 

يوم المعلم 

كلمة الأستاذ منير سلامه

استهلُّ هذا اللقاء بأطيب التمنيّات لجميع المعلمات والمعلمين في لبنان في عيدهم اليوم.

حسبُكم أيها الزملاء، وفي زمن السقوط الذي نعيش، ومع كلّ الشعور بالغبن اللاحق بكم وفيما يزرع الكثيرون الجهل واليأس والتعصّب حسبُكم أنكم ما زلتم تضيئون شمعة الأمل في هذا الوطن. وتحافظون على القيم الإنسانية والوطنية التي هي رجاءُ القيامة في الآتي من الأيام.

أيها الحفل الكريم،

في التاسع من آذار، يوم المعلّم، وفي تكريم المحتفى بهما الأم دانييلا حروق والدكتور هشام نشابه، تستعيد الروزنامة مساحة زمنية تعكس الصورة الحقيقية لهذا الوطن.

هذا التكريم أردناه في الحركة الثقافية - انطلياس، تحية نوجهها معاً لكبيرين من هذا الوطن، وعربون شكر لرائدين من رواد التربية والتعليم في لبنان، أسهما في مسيرتهما التربوية وما يزالان يسهمان في بلورة معنى وجود لبنان:

لبنان والعلم والمعرفة والانفتاح والتواصل مع محيطه العربي ومع العالم،

لبنان التفاعل الإنساني والحضاري وواحة الحرية في هذا الشرق.

*      *      *

منذ اصطفاها الرب لرسالتها، حملَت وزناتها ومشت. عرفت ان الطريق شاقُ فما وهَنَت وما ترددّت.

اختارت التعليم باباُ للبشارة، فكانت دائماً الى جانب الأجيال الشابّة تعلّم وتُرشد وتنصح وتساعد.

أطلقت ديناميات الشباب في مدارس رهبنة القلبين الاقدسين التي تولّت وأعادت وصل التيار الإنساني في المناطق حيث حلّت، مترجمةً رسالة رهبنتها واقعاً معيوشاً.

أولت العنصر البشري في مؤسسات الرهبنة اهتماماً مميزاً فالأساتذة يعرفون كم هي مشاركة لهم في رسالتهم ومقدرة لتضحياتهم والموظفون والعمال يشعرون كم هي معهم تعيش همومهم وتكافئ تفانيهم.

أيها الأصدقاء،

بالرغم من مسؤولياتها الكبيرة ومشاغلها الكثيرة وخصوصاً بعد ان سلّمتها ثقةُ أخواتها دفة القيادة في الرهبنة، لا تتأخر الأم دانييّلا عن متابعة التطورات الثقافية والإصدارات الحديثة فتبدي ملاحظة او تكتب تعليقاً او تشجّع على عقد ندوة او حوار او تدعو الى تكريم شخصية مبدعة.

هذا الى جانب شغفها بالتجديد والتطوير وبإبقاء كافة المؤسسات التابعة لرهبنة القلبين الاقدسين مواكبة للعصر.

اما على الصعيد الوطني فحسبي ان أشير إلى إيمانها العميق بلبنان الرسالة

وبلبنان السيّد الحرّ المستقلّ والديمقراطي.  

*      *      *

أيها الأصدقاء

في الكلام على الأم دانييلا يخاف واحدنا ان ينسى كثيراً من كثير كثير، ولكن ما يشفع لي هو ان التقديم معقودٌ لواؤه الى سيدة متميزة أبت، بالرغم من انشغالاتها المتعدّدة والمتنوعة، إلاَّ ان تشاركنا هذه المناسبة وان تفتح أمامنا صفحات من كتابها تشغل فيها الأم دانييلا مساحات حميمة.

لسيدة تنقلنا بغنائها الى فضاءات نودّ لو تدوم،

لسيدة جعلت من فنّها رسالة ثقافية حملتها الى العالم،

لفنانة انطلقت في القمة ولا تزال.

الكلمة لمن هي بغنى عن التعريف

لسفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة.

السيدة ماجدة الرومي

*      *      *

 يوم المعلم

الدكتور هشام نشابة

منذ نصف قرن ونيّف ومسيرة الدكتور هشام نشابة الفكرية والعلمية والتربوية مستمرة.

اشرف على تخريج آلاف الطلاّب خلال تولّيه أعلى المسؤوليات التربوية في جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وكأستاذ لتاريخ العرب الحديث وللفكر الإسلامي ولمذاهب الفكر التاريخي في الجامعة الأميركية وفي جامعة القديس يوسف وفي الجامعة اللبنانية وفي عدة جامعات في الولايات المتحدة الأميركية.

ومن هؤلاء الخريجين من هم بيننا وقد أصبحوا زملاء للدكتور هشام.

الى جانب مسؤولياته التربوية والتعليمية تولى وما يزال مناصب رئاسية في منظمات إقليمية ودولية منها رئيس المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالكسو) ورئيس لجنة البرامج والعلاقات الخارجية في المجلس التنفيذي للأونسكو.

له العديد من المؤلفات والدراسات باللغات العربية والانكليزية والفرنسية تشكّل مراجعاً للطلاب والباحثين.

هذا بالإضافة الى اهتمامه بتطوير الحوار الإسلامي - المسيحي فشارك في تأسيس معهد الدراسات الإسلامية - المسيحية في جامعة القديس يوسف في بيروت كما أسس مركز توثيق العلاقات الإسلامية المسيحية في جمعية المقاصد.

ايها الأعزاء،

هذا بعض من بطاقة تعريف المحتفى به الدكتور هشام نشابه

*      *      *

اما الكلام على مختلف ميزات هذه الشخصية التربوية والعلمية فهو للأستاذ محمد المشنوق الذي عرفه هذا المنبر في ميادين فكرية وثقافية متنوعة.

فهو في السياسة رجل المبادئ الوطنية والحوار العقلاني والانفتاح الواعي لأهمية لبنان الوطن والدور.

وهو في الإعلام رائد من رواد حرية الكلمة ورسالتها ومدافع عن الحريات العامة.

وهو رجل التربية والإنماء ويرأس مجلس الإدارة التربوية في جمعية المقاصد الخيرية  الإسلامية في بيروت.

وهو مؤسس ورئيس المجلس الثقافي لمدينة بيروت.

كما كان رئيساً لجمعية متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت.

باختصار الكلمة لشخصية ثقافية رائدة.

الكلمة للأستاذ محمد المشنوق.

 

كلمة السيدة ماجدة الرومي

 قُدوَتي هي، ومَثَلي الأعلى، وطَريقي إلى حيثُ العمرُ أَخصَبُ وأطيب. منارتي هي كانَت، وما زالت. بأنوارِ فضائِلِها المريَمية اهتديتُ... بفِكرِها المتوقّد.

تلميذتَها كنتُ وسأبقى. منها تعلّمتُ كلَّ يوم... من عزمِها، من طموحِها،

من رباطةِ جأشِها، من ثقافتِها الواسعة، من كلّ الذي جَعَلَها المختلفةََ المتميّزَةَ الرائدةَ في مجالها.

لم يفاجئْني إنتخابُها عن جدارةٍ رئيسةًً عامةً لرهبانية القلبين الأقدسين، لأنها آتيةٌ من عرين أَسَدٍ، من وعْدِ رسالةٍ مستنيرَة، من بالِ قمَر، لأنها آتيةٌ من مستقبلِ زمنٍ آتٍ لا من ماضٍ ارتوى فاكتفى ثمّ تَعِبَ واستراح. لا التعبُ واردٌ في قاموسِها، ولا الاستسلامُ للأحزانِ والمصاعِب. كسَرَت كلَّ صعوبةٍ تَكْسُر.طوَّعَتِ اللاممكن.اجتهدَتْ وثابرَتْ فانفتحَتْ أمامَها كلُّ الدروب.

هنيئاً لرهبانيةٍ تقودُها اليومَ إلى حيثُ حُلْمُها الأكبر، وهنيئاً لنا ولها هذا الوسامُ السماويُّ الذي قَلَّدَها إياهُ اللهُ بكثيرٍ من التقديرِ لكلِ ما كانَتْ عليه طَوَالَ السنواتِ الماضية.

وبعد...

 

يا أمي الحبيبَةَ فوقَ حدودِ كلِ محبّة... إسمحي لي في تكريمِكِ اليومَ أن

أعتزَّ بِكِ كثيراً، أن أتغاوى لمرةٍ بكلِ إنجازاتِك، أن أستظلَّ بجناحِكِ وأنتِ تُحلّقينَ على هذا الارتفاع... انظُري ها قد جاوَزْتِ أسرابَ الغمام، لامسْتِ تاجَ الشمس، صِرتِ زرقةَ الأيامِ المُشرِقة، يا الآتيةُ من جارةِ الوادي، ها قد غَدَوْتِ جارةَ ِ النسور.

أمانةً يا أمي، سَلّمِي لي - من حيثُ أنتِ - على نُسُورِنا، على ثلجِنا وأرزِنا، على لبناننِا نحنُ الذي عَبَدْناه بَعدَ اللهِ معكِ على مقاعد الدراسة، لبنانُنا نحنُ الذي عَلَّمَنا تاريخُهُ بأنه ما مَرَّ يومٌ على حَقْبَةٍ مظلمةٍ إلاّ وصَبَرَ فيها إلى المنتهى وخَلُص.

لبنانُنا نحنُ، لبنانُ الإنسانِ الذي نُؤمنُ إيماناً ثابتاً بأنه سَيَقومُ من بين الأمواتِ منتصراً على جلاَّديه، لأننا نؤمنُ إيماناً ثابتاً بالله، وبأمثالِكِ من اللبنانيينَ الأشرافِ الأبرارِ الذين لو أَمَّنَهم اللهُ على وَزْناتِ لبنان لأعادُوها يومَ الحسابِ لا وقد قَلّت حتّى إنعَدَمَتْ، بل لأعادوُها وقد تضاعَفَتْ وأَزْهَرَتْ جَنّاتٍ وَجَنّات.

 

كلمة الأم الرئيسة العامة الأم دانييلا حروق

 "إذهبوا في الأرض كلّها وتلمذوا كلّ الأمم"

متى 28. 19

أحبائي وكلّكم أحباء القلبين الأقدسين

نجتمـعُ مساءَ عيدِ المعلّمْ لنزيّنَ العطاءَ ونكلّلَه بالفرحْ.

        نُهدي للمعلّم الأسمى، وللحاضرين الكرام، باقـةِ شكرٍ وامتنانٍ لعظائمِ الربِّ في المكرَّمين.

أكلّلُ مغامرتي التربوية في خدمة الطفولةِ والشبابْ وأفخرُ بأمومتي الروحية.

أُطلقُ وعداً لأهلي، ورهبنتي، والكنيسة، ولبنان، ولكلّ البلدان المنتشرة فيها، عائلةُ القلبين الأقدسين.

وأُقسِمُ بالوفاءِ لرسالةِ المعلّمِ سيّدي وإلهي، ومن على منبرِ مار الياس إنطلياس أَشهدُ بأنّ لبنان وطني يبقى ولا يزال، منارةً في حضارةِ المحبة: "إذ بالتربية نبني الإنسان". وبالمحبة تنمو كنيسة المسيح.

"فابعثوني رسالة حبّ من بلادي             تُفجّـر الأرض رفقا"      

في عيد المعلّم لي وقفةُ شكرٍ للذي دعاني لرهبنة القلبين الأقدسين.

الشكرُ لكلّ المعلمينَ والتلامذة والأصدقاء والعمال ولكلِّ من خاضَ معي معركةَ الحياةْ وناضل من أجل حريةِ الكلمةْ وكرامةِ الإنسانْ.

الشكرُ للرهبنة الأنطونية مدرسةً في روحانية المعلّم ورسالته، ونموذجاً في الكرم والضيافة.

الشكرُ للحركة الثقافية رئيساً وأعضاء تُجسّد كلَّ سنةٍ في معرِضها ومؤتمراتِها ودراساتِها، المعاناةَ اللبنانية ومشاكلَ الشعب في شتّى الحقولِ فتسعى جاهدةً لإيجاد الحلولِ الناجعةْ.

المربّي منير سلامه معلّم متمرّس يُلقي الأضواءَ على تاريخِ لبنان وجغرافيةِ هذا الوطن الممَّيز بمناخِه العذبْ وطبيعتِه الخلاّبة، بسياستِه التوافقيةْ ونظامِه الليبرالي، أشكرُه على تقديمه اللطيفْ وقد سكَبَ على مضمونه ندى الوئام. لقد حرّكَ فيَّ مشاعرَ الطفولةِ والشبابْ فلَهُ منّي عرفانَ الجميل وكلَّ احترام.

للدكتور محمد المشنوق تحيةُ إكبارٍ وإجلالْ. أنت رمزٌ في عالمِ الفكر والمعرفة، لبنانيٌّ لا غشَّ فيك، علاّمة مهيب.

هشام نشّابه صُلبتَ بين راهبةِ القلبين الأقدسين والأب عبد الساتر الأنطوني، حضَنك محمّدُ المشنوق وختمكَ، إذ أنتَ كاهنٌ على رتبةِ عاميةِ إنطلياس تناضلُ كلّ يوم، وترفَعُ للوفاق الوطني أسمى القرابين، تَلذّ لمسيحِنا وَتَهَبُ أهلَ السّنة طمأنينةً مارونية.

لقد مسحناكما في مِهرجان الكتابْ رسولَيْ سلام فأنتم السُّنة أئمةٌ تعيشون روحانيةَ الكتابْ فلكم من أهل الإنجيلِ تحيّةً صادقة.

الدكتور عصام خليفه حالةُ اعتصامٍ واعٍ واعدٍ ودائمْ عينٌ على التاريخ والتراثْ وأخرى على الحداثةِ والتطويرْ للتجدّدِ والتحريرْ، جامعيٌّ ينتفضُ ثورةً على جورِ إسرائيل وحقدِها الظالمْ، تيّارٌ يُصارع بعزمٍ لا يَنثني. وبقوّةِ الإيمان نُرسِّم حدودَنا المعتَرفْ بها دُوليًّا ونرسّخُ أساساتِ نظامِنا الديمقراطيِ فلا زعزعةٌ ولا زلازلٌ  بل بحثٌ علميٌّ ووفاقٌ وطنيٌّ ورجاءٌ ساطعٌ نابضٌ بقيامةِ لبنانَ النظام والشعب والجيش والمؤسسات.

والآن تحيّةٌ من الأخت دانيلا المعلّمة والمربية، إلى ماجدة الراهبة بصلاتها وفنّها. وإذِ ارتكضَ الجنينُ في رحم ماري الحرّوق، ارتعشَ المولودُ في بطن ماري الرومي. ولمّا كانتِ التربيةُ حضورًا حوارًا وشهادةْ سكبَ الروحُ على اللقاءِ شُهُبَ النورِ، وتمّت معموديةُ النبوّةِ والبنوّةْ وصِحْتُ آنَ ذاك، وكان قلبي دليلي: هذه ماجدةْ إبنتي الحبيبةْ فلها اسمعوا. لقد شرّفتِ أمومتي الروحية ودَمغتِها بِخاتَم التَبنّي أَنصتوا إلى دعوتِها في الصلاة والفن والحرية وثمّنوا رسالتها الوطنية.

من صور دعوتُ ابنتي وبين صورَ وزحله قصّةُ حبٍ ورباطٌ أخوي نسَجه شاعرُنا المفدّى السعيدُ  بعقله  فنظَم لكِ "عم بحلمك يا حُلم يا لبنانْ" وأهداكِ قصائدَ أُخرى قيّمة كما ويا سندي، وبدافعِ الأبوّة الأدبيّة والزحليّة أَهدى لي جائزةَ "كلِمةَ ملِكة" أعتزُّ بها أدباً وحمّلتني مسؤوليةَ حريّةِ التعبيرِ وصونَ جمالِ الشعر وإلقائِه أداءً وموسيقى ونغمًا.

ماجدة عوارضُ بيتِنا من أرزِ لبنان! فلا خوفَ على مصيرِ الوطن. هدير البردوني يترنّح فتمتزج أنفاسُه بأصوات كفرشيما العذبةْ وألوان طبيعتِها الخلاّبةْ. وفي هذا الاحتفال بالزَّفة الروحية، تتعالى الأناشيدُ والتسابيح، ويعلو الشكرانُ بمدائحِ العليِّ فيختال المرءُ زهواً بالفخار وعزّةِ النصرِ المخلّد          

شأ تزلزل دنيا                  شأ تبني دنيا

ماجدة في ثانوية الحدث كنت الحدَث الخارقْ ومع شلّة من الصديقات انطلقتِ كوكبةً نورانية تنضح براءَةَ وتقطر حيويةً، ولنا في هذه الثانوية ابتهالاتٌ وزياحاتٌ دينية، إنشادُ لَبَكِيّات، مجالسَ أدبيةْ وغنائيةْ، ومسرحياتٌ فنية وجوقاتٌ طربية، ورقصات غربية، ودبكات لبنانية، وفيروزيات، صولاتٌ سياسية وجولاتٌ سياحية فاحَ منها عطرُ الابداعِ والسكينةْ والفرح وكان الوطنُ ينعم بطمأنينةِ البالِ والبحبوحةِ والحريةْ.

ربّي ألا عادت أيامُ زمانٍ فننعمُ بالسلام في وطنِ السلامْ.

وبين الأنطونية واليسوعية سطَع نجمُ أنطونيوس الراهب، ولمعَ طيفُ اغناطيوس الرسولْ، قلبان يخفُقان بحبِّ المسيحِ المتأنسْ وشغفٍ لا يُضاهى، في إعلاءِ شأنِ لبنانَ الرسالة بثقافةِ المحبةْ وحضارة الكلِمة.

ولمّا كان التجذُر الانجيلي والانفتاحُ من صلبِ روحانيتِنا الاغناطيةْ أعلنّا الحربَ على الطائفيةِ ورفضنا التعصّبَ وانطلقنا نعيشُ مغامرتَنا التربوية باندفاعِ الشبابِ الطوباويْ وتجسيدِ القيَمِ مشاريعَ تربويةٍ ميدانيةْ ونشاطاتٍ انسانيةٍ اجتماعيةْ، وحركاتٍ رسوليةٍ وكشفيةْ. أطلقنا صاروخَ الحريةْ فصَدَحْتِ في كلِّ مناطقِ لبنانْ والعالمِ العربي وكلِّ أرجاءِ الكونِ أسقطتِ القِناعَ، وتجلَّى وجهُ الحريّة "يركّز بلادي على حدودِ السماء". ماجدة أنتِ نموذجٌ فريدٌ لنَهْجِنا التربوي: ثقة بالذات وبالخالق مدعومة بتواضع لا مثيل له، نبل في المعاملة وكِبر مع خفر جذّاب. جمال متألق ببساطة، مواهب متفجرة تذيع بمجد الله. همّك رضى الرّب وخدمة لبنان. سفيرتنا إلى "الفو"، رسولة أنْسَنَتْ كلّ مبادراتها بحزم ودرايةٍ، بفهمٍ ولباقةٍ وكياسة، وحنانٍ مُرهف.

سيري يا ابنتي ببركةِ حليمْ الرومي وقد تنشّأتِ على الأصالةِ وما أحوجُنا إليها هذه الأيام في الوسطِ الفنّي عريقةٌ بأدائِك اللائق الأنيق بنتُ اليسوعية سيري يا ابنتي وعين مهى أختِكِ ترعاك. مُناكِ أن يسكبَ العليُُّ على إنجازاتِكِ هالةً من نور.

ماجدة، أنت حُقٌ أردناه          يحتوي عطرَ بلادي جميعَه

ماجدة، أخواتي الراهبات، أحبّائي في عين نجم وفي كلِّ لبنان هذه تربيتُنا الرسوليَّة نطلقُها صرخةً من أعماقِ قلوبِنا: وعيٌ وثقافةْ، تجذّرٌ وانتماءْ، رجاءٌ ولاء وروحانيةْ ترتكزُ على أسسٍ متينةْ ترعى المعاييرَ الجوهرية، وتنشرُ أريجَ الانجيلِ والعدلِ والسلامْ وتنضحُ قِيماً انسانية. فالعنايةُ الربّانية مرجعيتُنا والمسيحُ قائدنا في النهج والأداء، والعذراء مريم مثالُنا في الخدمةِ والعطاءْ. سلاحُنا التمييزَ ورائدُنا الورعَ والتقوى والفضيلة، انفتاحُنا مشرّعُ الأبوابِ على قبولِ الآخر، نستوعِبُ كلَّ الفوارقِ والتمايز.

اليسوعيةُ، تأهبيةٌ رسوليةْ، نزعةٌ تحرّريةْ، وخدمةٌ مسكونيةْ، ثروةٌ لا تنضَبُ ومنارةٌ ساطعةْ. فالكلّ يُحبُّ بقلب واحد أمّا نحن فبالقلبين ننبض: بقلبِ الانسان وقلبِ لبنان تؤمان لا ينفصلان.

وفي هذا الجو العابق بالفرح والتكريم أصلّي مع طاغور في قربان الأغاني: "ربّي عطايك لا متناهية ويداي صغيرتان لكن اسكب فسوف تفنى الأجيال ويبقى في يديّ فراغ".

ولا يسعُني نهايةً بعد الشكر إلاّ أن أرددَ مع داوود النبي: صالحٌ الاعترافُ للرّبْ والإشادةُ لاسمك أيّها العليْ. وسيّدةُ لبنانَ وأمُّ المعلّمِ تباركُ جمعَنا وتُضفي على مهرجانِنا رونقاً مريمياً وبوداعتها أهتف: تُعظم نفسيَ الرّبَ وتبتهجُ روحي بلبنانَ الصداقةِ والثقافةِ والرسالةء ولنبقَ عمالاّ في كرمِه نقطُفُ عناقيدَ المحبةِ ونعصرُها عطاءً ونتذوقُها خمرةً طيّبةً وفناً مدراراً.  ماجدة أحبُّك أن تُغنّي.

بلادي أنا ولبنانُ عهدُ

ليسَ أرزاً ولا جبالاً وماءً               وطني الحبُّ ليس في الحبِّ حقدُ

فهو نورٌ فلا يضلُّ فكدٌ          ويدٌ تُبدِعُ الجمالَ وعقلُ

لا تَقُلْ أمّتي وتسطو بدنيا               نحن جارٌ للعالمين وأهلُ

الشاعر سعيد عقل

 عشتم، عاشت القلبين الأقدسين، عاشت ماجدة الرومي والحركة الثقافية، عاش لبنان.

 

كلمة الاستاذ محمد المشنوق

 أيها السيدات والسادة

الشكر أولاً للحركة الثقافيّة في أنطلياس لمبادرتها في تكريم المبدعين والمفكّرين وكبار التربويين وأصحاب الأدوار الطليعيّة في الوطن. وحسناً تفعل اليوم ونحن نكرم علماً من أعلام الفكر والتربية والتعليم الدكتور هشام نشّابه. والشكر ثانياً لرئيس جمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة المهندس أمين الداعوق الذي أتاح لي فرصة الحديث عن الدكتور نشّابه، ولعله كان يدرك أن السوانح لا تختزن، ويعرف أنه إذا كلفني سأتلقف هذا الموضوع بفرحة غامرة...

لو كان للتربية أن تتجسّد بشراً سويّا، ولو كان للفكرالمنفتح على التجديد والتطوير وبناء الإنسان أن يتجسّد هو أيضاً بشراً سويّاً، ولوكان للحوار بين الاديان في ظل تعدد الإيمان السمح ومبدأ القبول بالآخر أن يتجسّد كذلك بشراً سويّاً، لكانت جميعاً الدكتور هشام نشّابه.

هو رجل بألف كما كان العرب الأوائل يقولون. وهو من أصحاب القابليّة المتجددة والكفاءة المتطورة الذين تستند اليهم المجتمعات والمدنيات العصرية...فالكفاءة والإبداع هما مصدر قوة الأفراد ومصدر قوة الشعوب والمؤسسات. هشام نشّابه هو أحد هؤلاء الكبار، ولكنّه لم يكن في برج عاجي، بل كان في تواضع العلماء يحوّل طاقاته كلها في سبيل التربية والتعليم والثقافة والنهوض بالمجتمع، لأنه يؤمن أن المجتمعات التي يسود فيها العلم ولا تسود فيها القيم هي مجتمعات خالية من الروح الإنسانية، وأنه ما لم يتحقق الدمج بين الثقافة الإنسانية والعلم وربط القيم الإنسانية والدينيّة بها، فإننا لن نكتشف طريقة إلى حياة تجعل هذا الإنسان القيمة الأولى والأخيرة .

        حمل طموحاته بعد نيله شهادة الدكتوراه من جامعة ماكغيل الكندية وقرر البقاء في لبنان باحثاً عن موقع قيادي فكري وتربوي. قال له الرئيس المغفور له صائب سلام في اللقاء الاول أن العمل التربوي لا يحمل الثروة لصاحبه ولكنه لا شكّ يحمل حس الإكتفاء والغبطة. وفهم هشام ذلك نوعاً من التحدي، فهو كما الدعاة لا يبحثون عن العمل ذي المردود المادي المغري، بل يبحثون عن العمل الذي يجسّد الرسالة ويفتح لهم مجال تحقيق ذاتهم من خلال تحقيق رؤيتهم التغييريّة، فقال للرئيس سلام أنا لا أبحث عن المال الوفير، ولكنني أريد متابعة نهج المربين، والمقاصد هي المجال لأن التخطيط لثقافة المستقبل أو لمستقبل الثقافة يبدأ من المدرسة. وبدأت مسيرة هشام نشّابة التربويّة ولم تنته.

نذر نفسه وما يزال للتربية والتعليم وأصبح عميداً للتربية والتعليم ثم رئيساً للمعهد العالي للدراسات الإسلاميّة في المقاصد، ورئيساً لإدارة المعاهد العليا في جامعة المقاصد. وأمضى سنوات طويلة يعمل في سبيل بناء الإنسان من طفولته وحتى آخر العمر. ألّف الكتب والدراسات وشارك في الأبحاث ونشر عشرات المقالات في أبرز الدوريّات، وعلّم في الجامعات الكبرى في لبنان وعلّم زائراً في عدد من الجامعات الأميركية في الفكر الإسلامي وله فيه باع طويل. كان سبّاقاً لعصره يخطّط ويزرع ويحصد أفواجاً من الشباب يحملون قلة صبر وأحلاماً بالتغيير بلا حدود. وهو يعيش فرح العطاء ويزهو بالمواسم تتوالى، والهمّة الى مزيد... والقلق لا يهدأ...

عرفته في المجالس التربويّة والإجتماعات واللجان المتخصّصة، ولمست لديه هذا الحس المنهجي في معالجة القضايا. أنظر اليه يكتب على ورقة بيضاء، وأرى في الهوامش بعض ما يتوارد في ذهنه من أفكار يكتب عنها عبارة أو عبارتين بالعربية أو الفرنسية أو الإنكليزيّة. يترك النقاش لتحديد المواقف والافكار... يطلب الكلام جامعاً ملخّصاً... محدّداً للخيارات مع تحفّظ العلماء المعروف... فيرتقي بالنقاش ويحدّد البوصلة نحو النتائج.

شعر الدكتور هشام نشّابه أن المثقف العربي مطالب بامتلاك المعرفة وبتحويل هذه المعرفة إلى وعي لدى الآخرين، وتحويل الوعي إلى قرار وسلوك وإنتاج وعلاقات عمل وأخلاقيات تعامل، فبدأ هذا العمل المضني والدؤوب، في مجال التربية والتعليم ووضع المناهج والدراسات المعمّقة لتحديد معايير القيم والتفكير العلمي ومناهجه وأبحاثه.

ولأنه لا شيء ينجح كما النجاح... ولأن المسؤولية تشتد إلى صاحب الهمّة والعزم الصلب... ولأن هشام نشّابه ينطق بوطنيّته وعروبته بصدق والتزام، فقد كانت له إطلالاته العربية في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلاميّة ومؤسسة الدراسات الفلسطينيّة ومركز دراسات الوحدة العربيّة ومنظمة اليونسكو وكل ذلك في مواقع قياديّة مرموقة، ومن ثم مسؤوليّاته في المنظمة العربية للتربية والعلوم حتى تبوّأ رئاسة مجلسها التنفيذي وما يزال.

رجل حوار يجادل بالتي هي أحسن، ويسعى دائماً لنسج خيوط التفاهم على الاساسيّات، متجاوزاً ما يطفو على السطح من مزيدات ظروف الساعة وضغوط الأحداث. يؤمن أن الحوار على المستوى الأكاديمي فقط غير مجد، ما لم يتحوّل إلى حوار جماعي، يوسّع الدائرة لتشمل القاعدة الشعبية العريضة. يرفض أن يقتصر الحوار مع الذات والآخر على النخب الثقافية ويسعى إلى تطوير الحوار للوصول إلى المؤسسات والنوادي الثقافية والناس. ولأنه ملتزم بالمنهجيّة المؤسساتيّة فقد أسّس مركز التوثيق للعلاقات الإسلاميّة المسيحيّة في المقاصد وشارك في تأسيس معهد الدراسات الإسلاميّة المسيحيّة في جامعة القدّيس يوسف في بيروت. ودعا لتطوير مفاهيم الحوار ضمن القيادات الفكرية الاسلاميّة وضمن القيادات الفكريّة المسيحيّة قبل الانطلاق في مسيرة الحوار بين الجميع على قاعدة القبول بالآخر وتعظيم الجوامع وتقليل شأن الفوارق. ومن هنا كان هو والأب دو بريلاتور والمونسنيور اندريه سكريما والدكتور يوسف ابيش يطلقون الحوار الإسلامي المسيحي بلا قيود وفوق ما كان يطفو على الساحة من تطرف سياسي يغيّب كل حوار.

سمعته يقول عن مراكز الحوار بين الأديان إنها الطريق الأفضل لفهم كل مؤمن لأخيه المؤمن، مهما اختلف الدين واختلفت العقيدة. فإذا استطاعت المسيحية بجلّ طوائفها أن تؤسس لخطاب لاهوتي، فيه تنزّل الإسلام عقيدة وحضارة وتنشئ مؤسسات فكرية تسهر على رصد الفكر الديني الاسلامي وتحليله، فإن علاقة الفكر الإسلامي الحديث بالفكر الديني المسيحي ظلّت لفترة طويلة مرتبطة بمجهودات المفكرين الذاتية فقط، وبقناعاتهم الفكرية من دون أن تكون هناك مؤسسات علمية متخصصة تسهر على تتبع الفكر الديني المسيحي، وعلى التعريف بأعلامه ورموزه وتعمل على بناء خطاب إسلامي للمسيحية من داخل الثقافة العربية. والله أن هذه المراكز عمل رائد وجليل سعى اليه الدكتور نشّابه ويسجل له باعتزاز.

هذا الحوار والتسامح والقبول بالآخر ما كانت في يوم من الايام حالة يفتعلها هشام نشّابة، بل نقطة مركزية في فكره ورغبة عميقة في قلبه. كانت تبدو في الأزمات وكأنها تغريد خارج التيّار أو كأنها دليل ضعف وسط دوّامة التطرف من هنا أو من هناك. ولكنه ما تغيّر وما تراجع لأنه من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدّلوا تبديلاَ. فالحوار كما يفهمه سواء على مستوى حوار الأديان أو على مستوى الحوار الحضاري هو حوار متوازن ومتسامح في المستوى الأول، هدفه تعرُّف المؤمنين على ما تبنى عليه عقائد التوحيد في المسيحية والإسلام بهدف تعزيز قيم الأخلاق والإيمان، وفي المستوى الثاني يهدف الحوار إلى إقامة جسور متوازنة ومتكافئة بين الحضارتين الإسلامية والغربية، واستبعاد فكرة الهيمنة والتبعية فضلا عن الشعور بالخوف والريبة وعقدة التصادم.

إستمعت اليه يتحدث عن الدين الإسلامي،ووجدته لا يختلف في إيمانه وحس التسامح، أكان يتحدث أمام حشد من السيدات المسلمات أو جمع مختلط جامعي، أو أمام  معلمي التربية الإسلاميّة في مدارس المقاصد. هو... هو... يشعر بمسؤولية الإيمان ودور الموجه التربوي والمعلّم الحريص والمؤتمن على ما يقدم لسامعيه.

ولعله كان يغرف من معين الأديان كلها، فيأخذ أفضل ما يقرّب ويقدمه للجميع في خطاب واحد لا في خطابين مختلفين كما يفعل السياسيّون. إنه يعرف كم يتأثر الإنسان بما يسمع من مصدر علمي موثوق، ولذلك ظل الإنسان واحداً في إيمانه، وظل الدور التغييري هاجسه في كل أعماله.

صارحني ونحن في رحلة تربوية الى مجاهل عكّار بأنه بات أكثر صدقاً مع نفسه. وبادرته كيف؟ فقال لقد كنت في الماضي أدعي محبتي للموسيقى الكلاسيكيّة، وكنت استمع اليها مع بعض متذوقيها. اليوم أقول لك بصراحة أنني لم أكن أفهمها وإن إعتدت عليها مع كثرة الإستماع. ما أجمل التواضع والاعتراف وسط الذين يدّعون معرفة كل شيئ...

هشام نشّابه أكاد أقول إنه صوفي بامتياز في انفتاحه على كل الناس، وفي حبه لكل الناس، وفي مقاربته للأفكار وفي تصرفاته الصادقة وفي معاملته للجميع سواسية بخلق عظيم مقتدى وحلم واسع وسلوك سويّ. أخاله كما محي الدين بن عربي في هذا الحب الكبير للخالق والإنسان في أبياته المعروفة:

لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ    فمرعى لغزلانِ، وديرٌ لرهبـانِ

وبيتٌ لأوثـان، وكعـبةُ طائفٍ    وألواحُ توراةٍ، ومصحفُ قرآنِ

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّـهتْ    ركـائبُه، فالحبُ ديني وإيماني

 أخي هشام،

سمعتك مراراً تتحدث كم ينجرف الوطن تربويّاً بسبب التساهل في إنشاء الجامعات وإهمال الشروط تحت وطأة المداخلات وغياب المقاييس والمعايير. أؤكد لك أن الأزمة تطال كل شيئ في الوطن... ولعلك وأمثالك من ذوي الفكر تبقون الضمانة في النهوض بالانسان في لبنان...والدليل هو هذا التكريم لشخصك والشاهد على أن المقاييس عند المكرمين ما تزال بخير.

  

كلمة الدكتور هشام نشابة

بسم الله

تشرفت كثيراً بهذا التكريم حتى بت عاجزاً عن التعبير عن شكري وتقديري... وكنت أحسب أنني أتقن هذه الصناعة البيانية، فإذا بي محرج اليوم إلى حدّ الصمت... ذلك أنّ مثلي لم يعتد أن يسمع الإطراء بقدر ما اعتاد سماع النقد أو التذكير بما عليه من واجبات... وهي كثيرة خصوصاً في هذه الأيام.

شكراً  عطراً للحركة الثقافية في انطلياس، شكراً للرئيس وللأعضاء في الحركة، والشكر موصول للدكتور عصام خليفة، الطالب الذي فاق أستاذه، فكان تفوّقه مصدر اعتزاز له ولأستاذه في آن معاً.

والشكر للأستاذ محمد المشنوق. أرجو أن أكون مستحقاً لما أضفى عليّ من صفات. غير أنه لم يذكر ما اعتبره من أعظم نعم الله عليّ وهي نعمة حسن اختياري لأصدقائي، ولن أعددهم فهم كثر، والحمد لله، وهم على مساحة هذا الوطن العربي، ويتجاوزونه احياناً، منهم من كان زميلاً ومنهم من كان طالباً... أما الزملاء فأدعو لهم بطول العمر، وأما الطلاب فقد كانوا ذات يوم عبئاً عليّ فأصبحوا اليوم أوسمة على صدري.

وتتجلى عندي نعمة حسن الاختيار أكثر ما تتجلى في حسن اختياري لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت لأعمل فيها، ولئن شغلني عنها أحياناً بعض الواجبات، وحسن اختياري لزوجتي الحبيبة عفاف داعوق حفظها الله... حسن اختياري؟ لا بل قبولها بي. فالفضل الأول يعود لها في كل نجاح أحرزته في حياتي... وأجمل الأوقات وأسعدها هي التي نقضيها معاً... ولا أبالغ ان قلت لكم همساً اننا عاشقين منذ خمسين سنة وما نزال. اسألوها ان شئتم الخبر اليقين. ولكن جمال العشق، كتمانَه لا البوح به في الملأ.

يقضي أدب هذا اللقاء ان تذكر فيه الحسنات والانجازات حتى يكاد المرء أن يصاب بالغرور. لذلك اسمحوا لي ان اخرج عن التقاليد فأذكر لكم إخفاقاتي وفشلي، فذلك أولى بمن يعتقد ان أمامه فسحة عيش يكمل فيها رسالته التربوية.

أصارحكم بأنني كمربٍّ، اشعر بفشل ذريع كلما طغت الطائفية والمذهبية على حياتنا العامة. فقد عملت طوال حياتي في محاربة الطائفية والمذهبية وكم يؤلمني ان أرى هاتين الآفتين تطغيان على حياتنا العامة. كما اشعر بخيبة مريرة كلما تحدث الناس عن مظاهر العنف والفساد في مجتمعنا.

كم كنت تعيساً خلال "الإحداث"، كما نسمّى ادباً تلك الحرب الهمجية التي اجتاحت لبنان مدة خمس عشرة سنة أو يزيد! لقد كان بعض "الشباب" ممن عرفت يحمل السلاح خلال الإحداث وما تصوّرت ابداً انهم سيحملون السلاح ضد بعضهم البعض.

وكم اشعر بالتقصير عندما يقال لي بأن مستوى التعليم في لبنان في هبوط مستمر في جميع مراحله ومؤسساته. وقد يكون من السهل ان القي باللائمة على الدولة أو على "الظروف"... ولكن المسؤولين عن التربية، وانا منهم، يتحملون في نظري المسؤولية الأولى.

وكم كنت مقصّراً بحق الطلبة لأنني لم اقضِ معهم الوقت الكافي خارج الدروس لأتعلم منهم ويتعلموا مني أدب الحياة! لقد شغلني عنهم هذا النظام التربوي السقيم الذي لا يفرض على الأستاذ ان يخصص لطلابه الوقت اللازم خارج قاعة الدروس، ليحاورهم ويتعرف إليهم عن قرب ويعلمهم الحكمة قبل ما في الكتب.

وقد قصّرت بحق العلم والبحث العلمي بعد، إذ شغلني عنهما العمل الإداري، فلم أطالع من الكتب ما كنت أحب، ولم انشر من الكتب والأبحاث الا القليل بالنسبة إلى ما كان يجب. ان العمل الإداري مشغلة مبخلة، إذ يشغل عن إذ يشغل عن الإنتاج العلمي ويجعلك تبخل على من حولك بالوقت. وقد علمنا ابن مسكويه بأن هذا العلم لا يعطيك بعضه الا إذا أعطيته كلك.

بالطبع لست المقصر وحدي في هذه المجالات وفي غيرها مما يضيق الوقت عن ذكره. ولكني اشعر شعوراً عميقاً بهذه الإخفاقات واهيب بنفسي وبزملائي ان يستدركوا معي بعض ما قصّرنا فيه نحن المربين في مقبلات الأيام.

ولو كنا نحن المربين مؤهلين كما يجب واعين كما يجب لمسؤولياتنا، لكنا اليوم أكثر رضى عن أنفسنا وعن أحوالنا الوطنية.

فإذا كنا نريد للبنان ان ينهض ، فبالتربية اولاً تكون نهضته، وإذا كنا نريد له ان يصان من التعصب ومن الفساد والصراعات المدمّرة لحياتنا الوطنية فعلينا بالتربية، وان كنا نريد الإنماء والازدهار فبالتربية يكون الإنماء والازدهار... والحديث يطول وهو ذو شجون.

أمامكم إذا مربٍّ يرى في كل ظلم، وكل فساد، وكل تخلّف في مجتمعه، فشلاً له في تأدية رسالته. ولكن أمامكم ايضاً مربٍّ ما زال عازماًً على متابعة المسيرة معكم، ومن أجلكم. فأنا والحمد لله مؤمن بالله وبوطني لبنان وبالشباب. مؤمنٌ بكم يا أبناء وطني. والمؤمن لا ييأس ولا يتخاذل، بل إن الإخفاقات الماضية تزيده تصميماً على إصلاح ما فات وبناء مستقبل أفضل.

أعزائي،

ليتني استطيع، وانا معتزّ بهذا اللقاء ان احوّل هذا التكريم إليكم في الحركة الثقافية - انطلياس، فانتم أجدر مَن يُكرَّم.