مناقشة كتاب كمال ديب:
"أمراء الحرب وتجّار الهيكل رجال السلطة والمال في لبنان"
في 11 آذار 2007

كلمة الأستاذ الياس كسّاب

 

 كمال ديب                             

دخل المستشار ذات يوم غرفة الملك خائفا حائرا ليراه جالسا مطمئنا متأملا على كرسيه قرب النافذة يقرأ كتابا . فتعجب المستشار وقال له : ما بالك ايها الملك ، الناس في الخارج غاضبون يملؤون الساحات بصراخهم ، ينتظرون إطلالة جلالتك عليهم لتهدء من غضبهم وتملي عليهم قرارك الحكيم ، نظر اليه الملك وقال : الا ترى أني اجري مباحثاتي واستشاراتي ؟

سأله المستشار: وكيف ذلك وأنا أراك تقرأ كتابا ؟

أجابه الملك: نعم فأنا أستمد من كلمات هذا الكتاب الرأي الحكيم والفكر السديد والنصح القويم من أسلافي ممن خلّدوا في الكتاب فهو بفكره يحاكي الماضي والحاضر والمستقبل، وبمشاعره يكلم الناس فيترجمها كلمات تسكن الورق وتظل مستيقظة لتدخل ذهنك عندما تناديها.

أيها المستشار ان الكاتب هو الحاكم والحبيب، هو القاضي والباحث، هو الناقد والباني ولكن حذار أن يكون هو الشيطان.

فللكتاب موقع في الحركة الثقافية - أنطلياس التي تربطها به علاقة وثيقة ومميزة أو ربما أكثر ، فللكتاب مهرجانه الذي نحتفل به في هذا الاسبوع .

أيها الحضور الكريم،

نرحب بكم في رحاب الحركة الثقافية أنطلياس في هذه الامسية لنلتقي مع نخبة مميزة من الخبراء والمثقفين في وطننا ، حول كتاب الدكتور كمال ديب الصادر حديثا عن دار النهار للنشر في طبعته العربية بعنوان : " أمراء الحرب وتجار الهيكل رجال السلطة والمال في لبنان "  بعد الطبعة الانكليزية

WARLORDS AND MERCHANTS

- THE LEBANESE BUSINESS AND POLITICAL ESTABLISHMENT

أكثر من 600 صفحة يقدم لنا المؤلف من خلالها لمحة شاملة من تاريخ لبنان الحديث ومصائبه بحيث يعالج تاريخ السلطة والمال في لبنان منذ بداية القرن العشرين حتى العقد الاول من القرن الحالي من الموقعين السياسي والاقتصادي ويسلّط الضوء على خفايا الواقع المحلي الذي يشكل عادة لغزا" للأجانب .

يقدم الكتاب دراسة دقيقة حيّة الاسلوب تستعرض أسباب مقاومة البنى المحلية في لبنان والبلدان الصغيرة المشابهة لزحف العولمة الجارف . ويتصدى لامور عدة عطلت دور لبنان الاقليمي اقتصاديا وثقافيا على الاقل منذ العام 1975 : منها الطائفية والزعامات التقليدية وأساليب رجال الاعمال البالية والبنية الاقتصادية الهشة والشعور العميق لدى الجماعات المكونة للبنان الحديث بالاساءة التاريخية اليها .

انتقل الكاتب بين الفصول ال16 للكتاب من الوضع السياسي والطائفي الى الوضع المالي والازمات الاقتصادية عند كل محطة وطنية .

من تفكيك أحجية السيف والمال الى أمراء الحرب الشيعة والدروز فأمراء الحرب الموارنة .

دور ميشال شيحا وتعريفه لجمهورية التجار، كيف كان عهد كميل شمعون مع عودة أمراء الحرب .

ماذا عن حكم فؤاد شهاب والشهابية الامنية والمالية ،السماح بدخول رأس المال الفلسطيني كما كان يقال عن يوسف بيدس مع أزمة القطاع المصرفي التي هزت لبنان عام 1966 مع انهيار بنك انترا.

لماذا أغتيل كمال جنبلاط وبشير الجميل

ما هي أسباب تفتت ما بقي من الدولة وانهيار العملة الوطنية وما كان دور روجيه تمرز في عهد أمين الجميل .

هل المال هو القوة والمدخل الى السلطة والحكم كما كان شعار يوسف بيدس أم أن هذا المفهوم تغير مع رفيق الحريري ؟

هل أن رفيق الحريري هو آخر التجار؟

عن هذه الأسئلة أجاب الكاتب بأسلوبه في كتابه وذلك نتيجة عمل متواصل على مقارنة المراجع وعلى تواصل وترابط الفقرات والفصول مدعما المعلومات والنتائج في الكتاب بالمراجع والأرقام والأدلة والبراهين وبملحق إحصائي يضم 17 جدولا .

ايها الحضور الكريم ،

كمال ديب الخبير الاقتصادي الكندي من أصل لبناني الحائز على دكتوراه في الاقتصاد من جامعة أوتاوا - كارلتون والذي يشغل حاليا مركز خبير اقتصادي رئيسي في الحكومة الكندية ورئيس مركز الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية والدراسات الثقافية في كندا  والحائز على جائزة رئيس الوزراء الكندي عام 2004 والعضو في جمعية الاقتصاديين في كيبيك وفي جمعية الاقتصاديين الكنديين CEA  يزور وطنه كلما دعت الحاجة الى ذلك حاملا في جعبته 8 كتب وأكثر من 300 دراسة وبحث نشر معظمها في جريدة النهار وقد عالج من خلالها أزمة المالية العامة والأنشطة الثقافية .

يتولى مناقشة كتاب الدكتور ديب ثلاثة أصدقاء للحركة الثقافية - أنطلياس ، من أهل الفكر والخبرة والاختصاص في لبنان الدكتور جورج قرم ( وزير المالية الاسبق) والدكتور ايلي يشوعي والدكتور مسعود الضاهر الا أن معالي الوزير قرم اعتذر عن الحضور بسبب اضطراره للسفر ولكننا استعضنا عن غيابه  بقراءة الكلمة التي وضعها لهذه المناسبة

الدكتور ايلي يشوعي

هو الخبير المالي والاقتصادي الذي لمع اسمه في لبنان والعالم العربي وبات مرجعا يقصده الكثيرون وخاصة الاعلاميون لنقل الحل العلمي والتفسير الصحيح للمشاكل المالية والاقتصادية التي يمر بها الوطن.

الدكتور ايلي يشوعي

عضو مجلس ادارة : المجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان

رئيس التجمع الوطني للإصلاح الاقتصادي في لبنان

عميد كلية الاقتصاد وادارة الاعمال في جامعة سيدة اللويزة

عميد سابق لكلية ادارة الاعمال والعلم الاداري في جامعة القديس يوسف اليسوعية

له 5 مؤلفات عن الاقتصاد اللبناني والاقليمي والدولي

الدكتور مسعود الضاهر

مثقف من مواليد الشيخ طابا عكار ، تخطى حدود الوطن وراح يشارك في المؤتمرات الدولية يلقي المحاضرات في جامعات دول عدة من الجامعة الام أي اللبنانية الى السوربون حيث نال شهاده الدكتوراه دولة في التاريخ الاجتماعي حتى وصل الى جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأميركية  وجامعة طوكيو في اليابان بصفة أستاذ زائر وغيرها . شغل مراكز محلية وعربية ودولية وكان خير ممثل لبلده في هذه الصروح الفكرية ونال على أثرها أوسمة وجوائز عدة.

الدكتور مسعود الضاهر ، له 14 مؤلفا بالعربية و 3 بالانكليزية

شارك في أبحاث وكتب علمية وأشرف على نشرها وبلغ عددها 62 حتى حزيران 2006 وهي بالعربية والانكليزية والروسية واليابانية .

قليل هو الوقت للتكلم عن انجازات هؤلاء الكبار من بلادي
 

 مناقشة كتاب كمال ديب             

كلمة الدكتور جورج قرم

كمال ديب ترك الوطن وهو شاب بعمر 16 سنة في ظلّ عزّ الفتنة الكبرى بين اللبنانيين، إنّما لم يهجر حقيقة ً الوطن. ظلّ يفكّر فيه ليلاً ونهاراً وفي نفس الوقت، وهذه هي الأعجوبة ، يكيّف شخصيته ليصبح مواطناً كندياً صالحاً ويكتسب من وطنه الثاني الانضباطية وحب العمل الشاق واكتساب العلم ومناهجه. والحقيقة أن كمال ديب نجح نجاحاً مزدوجا،ً إذ ليس فقط أصبح مواطناً كندياً صالحاً بل، أكثر من ذلك، فهو من كبار الموظفين المرموقين في الإدراة الاقتصادية  الكندية؛ وفي نفس الوقت، فهو رغم غيابه عن الوطن الأصيل حاضرٌ أيضاً فيه بأعماله الأدبية والفكرية المتواصلة.

فقد قدّم لنا عام 2001 مؤلـّف ينتمي إلى أدب الرحلات تحت عنوان "على بوّابة الشرق مشاهدات لبنانية"، يروي فيه كل ما تملـّكه من مشاعر معقدة عندما عاد إلى الوطن بعد السنين الأولى من الغياب وجال في أطرافه بعد غياب طويل أسس فيها لكنديته. ونـُـفاجأ بعد ذلك بكتاب جديد في عام 2003 محرّر بلغة إنكليزية راقية هو Warlords and Merchants، ينظر فيه إلى التاريخ اللبناني من زاوية هامة، قلـّما تعرّض إليها المؤرخون اللبنانيون بهذه الصراحة البالغة. فقد وصف كمال ديب في هذا المؤلّف الهام تاريخ العلاقات المشبوهة بين المال والعنف في مأساة الوطن اللبناني منذ 1840 وحتى اليوم. وها هو الكتاب الذي يقدّمه اليوم إلى القارىء اللبناني والعربي بلغته الأم بعد أن قامت "دار النهار للنشر" مشكورةً بترجمته ونشره  وهو بعنوان "أمراء الحرب وتجار الهيكل: رجال السلطة والمال في لبنان"، وبعد أن أضاف المؤلف فصولاً جديدة لرواية الأحداث المأساوية الأخيرة التي أصابت لبنان.

غير أن عطاء كمال ديب في الكتابة كان قد استمر بعد وضعه هذا المؤلـّف باللغة الإنكليزية، إذ أتبعه بعد أشهر معدودة بمؤلف آخر لا يقل أهمية بعنوان "زلزال في ارض الشقاق، العراق 1915 إلى 2015"، وهو مؤلف جامع شامل حول أحداث العراق المفجعة منذ الحرب العالمية الأولى إلى الغزو الأميركي؛ وبهذا المؤلّف أغنى أيضاً المكتبة اللبنانية والعربية.

عندما يأتي كمال ديب إلى لبنان لا يهدأ، وكأنه يريد أن يعوّض ما فاته خلال غيابه عن الوطن، فإذا به يتصل بأصدقائه وبالزعماء السياسيين (وهذا ما لم أنصحه به) أو يلقي محاضرة أو يوقـّع كتاباً جديداً وربما يهيّء في مخيلته مؤلفاً جديداً.

إنه كمال ديب: إنسان له القدرة في أن يعيش في نفس الوقت في لبنان وكندا ! إنسان يبغض الطائفية والمذهبية ويتفانى في خدمة وطنه ويودّ باستمرار أن يؤكد ولاءه المزدوج هذا، الذي يعيشه بكل سهولة خلافاً لغيره من المغتربين اللبنانيين. فهو في النهاية يمارس إنسانوية وصوفية هما ذخيرته الأساسية في هذه الحياة الصعبة حيث يكون في آن معاً في لبنان وكندا.

نتمنى له كل النجاح والتوفيق في أعماله المستقبلية، كما أتمنى لهذه الندوة التي كنت أود المشاركة فيها أن تكون مثمرة وتساهم في جلاء الغيوم الملبّدة التي تكتنف بلدنا الحبيب لبنان.  

كلمة الدكتور مسعود ضاهر

هذا الكتاب يقرأ فعلا من عنوانه. ومن يقرأه يخرج بانطباع أكيد بأن تحالف أمراء الحرب من   قادة الميليشيات الطائفية والحزبية مع كبار التجار منع قيام دولة ديمقراطية بالحد الأدنى من الاستقرار. فمنذ أواسط القرن التاسع عشر،انفتح المجتمع اللبناني على حروب أهلية ما زالت  تتجدد بوتيرة أشد ضراوة ،وليس ما يلوح في الأفق بأكثر من هدنة بين حربين.

تحددت منهجية الكتاب منذ صفحاته الأولى .فالغاية من تأليفه إيجاد صدمة لدى القارئ عله يدرك، قبل فوات الأوان،هول الكارثة التي تنتظره من جراء تحالف تجار الهيكل الذين حولوا النظام اللبناني إلى مغارة للصوص. وجاءت فصوله متناسقة في تدرجها التاريخي ، لترسم مجتمعة  لمحة شاملة،وبأدق التفاصيل، لتاريخ لبنان الحديث والمعاصر.وهي لوحة قاتمة بسبب المصائب التي حلت بلبنان واللبنانيين منذ بداية عهد الفتن الطائفية في جبل لبنان في أواسط القرن التاسع عشر حتى الآن. وطوال تلك الحقبة التي تجاوزت القرن ونصف القرن كانت المقاطعات اللبنانية حقل اختبار دموي استخدمته القوى الغربية الفاعلة في التاريخ العالمي،مرة لتفكيك السلطنة العثمانية واقتسام ولاياتها،وثانية لتمرير حلف بغداد ،وثالثة لتدمير عناصر القوة لدى العرب في صراعهم مع المشروع الصهيوني ،ورابعة لمساندة التحالف الإيراني - السوري ،

أخيرا وليس آخرا،لتمرير مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يعطي إسرائيل مركز القيادة فيه على حساب لبنان وجميع الدول العربية. وفي جميع تلك الحالات كان لبنان المتضرر الأساسي من التحالف الثابت والدائم بين تجار السلطة والمال من اللبنانيين مع أصحاب المشاريع الخارجية. فأمراء الحرب وتجار الهيكل، هم رجال السلطة والمال في لبنان. وهم يغلبون مصالحهم الشخصية والطبقية والطائفية على مصالح بناء الوطن الحر المستقل، والدولة الديمقراطية العادلة.

يقدم المؤلف السمات الأساسية للمنهج الذي أعتمده في تحليل تلك الأحداث بقوله أن كتابه هذا  محاولة لوصف عقلاني للأحداث التي وقعت في لبنان في الفترة ما بين 1975 و2006  من زاوية اقتصادية وبيئية يلعب فيها أمراء الحرب والتجار الدور الأهم. ففي بلد صغير المساحة قليل السكان كلبنان، يكتسب الزعيم المحلي أو رجل الأعمال شهرة لن يجدها في أي بلد آخر.

ويشدد على مسألتين : أن الشخصيات اللبنانية هي التي رسمت وترسم أحداث البلد ،وأن الشخصيات المحلية هي الأكثر تأثيرا في أحداث لبنان من الشخصيات الإقليمية والدولية.

ويعزو تركيزه المزدوج على الدور الشخصي لأمراء الحرب والتجار إلى غياب كتابات جدية ناقدة حول هؤلاء ودورهم في خلق لبنان،وتاليا في تدميره المادي والنفسي وانهياره المالي .     إذ لم يكن أمراء الحرب في لبنان أداة طيعة، بل استطاعوا إلى حد ما استغلال القوى الإقليمية ضد بعضهم البعض لغايات محلية ولكسب المعارك والجولات ضد خصومهم المحليين.

كانت الطبقة الحاكمة في لبنان وما تزال، بجناحيها السياسي والاقتصادي، عائلية. فهي تتشكل من تجمع عائلات، وائتلاف زعامات فردية هي في الحقيقة مجموعة حكام لمناطق يحظى كل منهم   باستقلال شبه ذاتي في زمن السلم وشبه كامل في زمن الحرب. وتستند الأطروحة المركزية في الكتاب إلى المقولة النظرية التالية:"ثمة عائلات صنعت مؤسسة عليا غير رسمية تجمع بين أمراء الحرب والتجار وأصحاب الأعمال على المصالح الخاصة.وتلعب تلك المؤسسة الدور الأكبر في حياة اللبنانيين، بمعزل عن حجم النفوذ أو التدخل الخارجي،أو دور الأطراف الإقليمية الدولية.

"أمير الحرب"،لقب أطلقه غسان تويني على زعماء ميليشيات الحرب اللبنانية بعد العام 1975 . وكان لأسلافهم من أمراء الحرب السابقين في جبل لبنان ألقاب عدة أهمها الأعيان،والمشايخ،

والملتزمين، والمقاطعجية أو ملتزمي الإقطاعات الصغيرة.

من شروط نجاح أمير الحرب أن تكون لديه زمرة عسكرية مسلحة قد يكون عددها بضعة آلاف،

وأن يتصرف باستقلالية في منطقة جغرافية معينة انسحبت منها السلطة المركزية.وأن تكون لديه القدرة للاستفادة القصوى من الفوضى التي ترافق غياب السلطة المركزية لكي يمارس النهب المنظم وفرض الخوة على مناطق مجاورة لنفوذه.يدعي تمثيل مصالح مذهبية أو مناطقية أو عائلية،ويستعمل العنف لتدعيم سيطرته،ويعتمد على كادر متماسك من المقربين عنده.يضاف إلى ذلك أنه يعتني بمصالحه الفردية،ولا يهتم أبدا بإصلاح أو تغيير بنية الدولة الحاكمة.ويقيم تحالفات محلية وإقليمية قوية تساعده على البقاء في السلطة وتوريثها إلى أبنائه من بعده. 

أما تجار الهيكل من حلفاء أمراء الحرب في لبنان فهم من أصحاب المال والأعمال الذين يفضلون عقد الصفقات الكبيرة على حساب الدولة. وتعود ممارستهم التجارية بجذورها إلى تقليد قديم قام على ممارسة النشاط الماركنتيلي منذ زمن الفينيقيين .ورغم طول المسافة الزمنية فإن الذهنية المركنتيلية لم توصل لبنان إلى النتيجة الطبيعية لتطور النظام الرأسمالي أي عملية التحول الرأسمالي عبر الاستثمار المنتج ."نحن شعب من التجار "، قالها ميشال شيحا متهكما على تلك الذهنية الماركنتيلية .

ولد التلاقي الكبير بين تجار الهيكل وأمراء الحرب في بيروت في بداية القرن العشرين بعد أن انتهت دويلة متصرفية جبل لبنان من حيث هي شراكة مارونية - درزية لتبدأ دولة لبنان الكبير عام 1920 بصفتها شراكة مارونية - سنية استمرت منذ الاستقلال حتى بداية الحرب الأهلية. 

فأصبح تجار بيروت وأمراء الجبل حكام البلاد الجدد وفق سلالات من أمراء الحرب والتجار معا. ويلاحظ المؤلف طغيان ظاهرة سلالة الدم في أمراء الحرب والتجار بأسلوبdynastie   أي السلالة الممتدة للمحافظة على استمرارية البيت الحاكم عبر خط الأبناء الذكور. وفي حال تعذر ذلك، عبر الأخ أو الزوجة أو الأخت أو الابنة، وأحيانا عبر ابن الأخ أو ابن الأخت.

يحمل المؤلف تحالف الإقطاعيين من أمراء الحرب مع كبار التجار الكبار مسؤولية الحؤول دون قيام دولة عصرية في لبنان .أما الكلام على السيادة،والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين اللبنانيين، وتعزيز روح المواطنية بين أبنائه بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية فما زالت مجرد أمنيات لم تتحقق.فالنظام الاقتصادي اللبناني خاضع خضوعا كاملا لتحالف رجال المال والسلطة في لبنان. وإزداد التحالف رسوخا بعد اتفاق الطائف واعتماد نظام المحاصصة بين زعماء الطوائف الكبرى الذين باتوا من كبار الأثرياء .بالمقابل، شهد لبنان تدهورا مريعا في أوضاعه الاقتصادية والخدماتية .فتجاوز حجم الدين العام فيه الخمسة وأربعين مليار دولار.

وتدنت نسبة الطبقة الوسطى إلى أقل من عشرين بالمائة بعد أن كانت قد تجاوزت السبعين في المائة زمن البحبوحة التي سبقت الحرب الأهلية لعام 1975. واتسع حجم الطبقة الفقيرة بشكل مخيف،وفتح باب الهجرة على مصراعيه أمام الفئة الشابة من اللبنانيين، وبخاصة المتعلمين منهم.

لذلك تعود جذور الأزمة اللبنانية،وفق ما يراه مؤلف الكتاب وكاتب مقدمته،إلى أن الطبقة الحاكمة من أمراء الحرب وتجار الهيكل عملت جاهدة على إبقاء الشعب اللبناني في حال الفقر والحرمان،

وليست لديها أية مشاريع لتنمية القدرات الاقتصادية في لبنان.في حين ترزح مختلف فئات الشعب تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى هجرة أكثر العناصر كفاءة وعلما من مختلف الطوائف والمناطق اللبنانية .ولم تعد النخب الثقافية قادرة على التغيير أو مواجهة الفساد المستشري  في الإدارة اللبنانية من جراء استغلال النفوذ وكسب المال غير الشرعي على حساب الوطن. وقد أطلق الدكتور سليم الحص على تلك الظاهرة توصيفا علميا دقيقا حين أسماها " ثقافة الفساد في لبنان". نتيجة لذلك ،ما إن تتجه قوى التغيير لتكثيف جهودها في مواجهة الفساد حتى تنبري قوى التحالف الحاكم إلى التحريض الطائفي والمذهبي وخوض مواجهة شرسة لمنع قوى التغيير الحقيقي من تحقيق أي مكسب ديمقراطي، مهما كان صغيرا. وهم يعتمدون وسائل مجربة تقوم على إفقار اللبنانيين ماديا من أجل استخدامهم وقودا للفتنة الطائفية. فأثبت هذا الأسلوب كفاءة عالية في تفكيك الوحدة الوطنية، واستجداء كل أشكال التدخل الإقليمي والدولي لحماية مصالح أمراء الحرب وتجار الهيكل في لبنان.

كان التداخل بين مصالح الطبقة الحاكمة في لبنان وأصحاب المشاريع الإقليمية والدولية واضحا على الدوام، وفي مختلف الحقب التاريخية. لكن المؤلف ركز اهتمامه، وبالدرجة الأولى، على دور  العامل الداخلي في الأزمات اللبنانية .فأولى اهتماما خاصا بالرد على مقولات تقلل من دور الزعماء اللبنانيين في تدمير بلدهم،أو توجد لهم أسبابا تخفيفية. وأبرز تلك المقولات:  "حروب الآخرين على أرض لبنان"،ونظرية " المؤامرة الإقليمية والدولية المستمرة ضد لبنان واللبنانيين" . وقد إتخذ منحى واضحا في رده على تلك المقولات بقوله :" ليس هذا كتابا عن تشابك الأزمة اللبنانية مع صراعات الشرق الأوسط ودور الدول المجاورة الكبرى في شؤونه. فالتشديد على العوامل الداخلية وعلى دور اللاعبين المحليين لا يقلل من أهمية دور العوامل الخارجية".

أخرج المؤلف العوامل الخارجية من بحثه، وأخرج معها كل أجنبي أو غير لبناني من الصورة، لكي يبقى الوجه اللبناني الحقيقي للأزمة،وجه أمراء الحرب والتجار المحليين. ورد على مقولة حروب الآخرين على أرض لبنان و" العذاب اللبناني الطويل على أيدي الغرباء الأشرار " بأن المعضلة كانت لبنانية أساسا، وبمضاعفات إقليمية. فقد وجه أمراء الحرب الدعوة للأطراف الخارجية للتدخل في شؤون لبنان، كما شجع بعض أمراء الحرب التدخل الخارجي ولو لم يتعامل مباشرة مع التدخل.وفي الحالتين عمل هؤلاء على الاستفادة من هذا التدخل . فإذا كان لب الأزمة في لبنان هو حروب الآخرين والتدخل الخارجي، فسيجد المراقب صعوبة في توضيح أسباب استمرار الصراع الأهلي في الثمانينات بعد خروج الجيوش الأجنبية من بؤر التوتر في لبنان.لكن الحرب استمرت بعد العام 1982، وقام اللبنانيون بنحر بعضهم البعض بوتيرة غير مسبوقة.وفي معظم الأحيان كانت المعارك تدور بين من كانوا حلفاء الأمس أو بين أبناء طائفة بعينها.

وبما أن الصراع على السلطة يتمركز في بيروت بالدرجة الأولى،فإن غالبية فصول الكتاب عالجت الوجه المزدوج للتبدلات العاصفة التي شهدتها بيروت في القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد كانت بيروت منطلقا لحداثة غير سليمة لا بل إشكالية للبنان وسائر أرجاء المشرق العربي.  فقد نشأت فيها أولى مظاهر التحديث السكني، والمالي، والمدارس، والجامعات، والفنون، والطباعة، والنقابات، والأحزاب، وغيرها. فاستقطبت مئات الآلاف من الريفيين الذين بقوا على هامشها في أحزمة البؤس. وكان هؤلاء يتحينون الفرص الملائمة للأنقاض على حداثة مشوهة لم تقدم لهم سوى المزيد من الحرمان والقمع والإفقار.

منذ القرن التاسع عشر،نما جبل لبنان وبيروت كمنطقتين متجاورتين منفصلتين : الأولى ضمن نوع من الحكم الذاتي يقوده الزعماء الموارنة ،والثانية كولاية عثمانية تحت سيطرة الزعماء المحليين من المسلمين السنة .بدت بيروت غنية ومتحررة وكوزموبوليتية تضج بالحياة والثروة والنشاط وتشكل نطاقا مفتوحا للاتجاهات والتيارات من الشرق والغرب .ومع ولادة " دولة لبنان الكبير " انتقل فيروس الصراع الأهلي من الجبل إلى بيروت والساحل وأصبحت العاصمة مسرحا لخلافات متجددة .ففي الجبل استمر نفوذ أمراء الحرب في أوساط المجموعات الدينية والمناطقية كما كان سابقا.وشكل السكن الطائفي حدود الكانتونات بين المناطق والطوائف تحت إشراف وقيادة أبناء أمراء الحرب التاريخيين والجدد. وتأقلم أمراء الحرب مع الجمهورية الجديدة وتحولوا إلى رجال دولة عندما استلموا مناصب وزارية أو نيابية أو صفات رسمية في بيروت. إلا أنهم احتفظوا بآليات الصراع ونقلوها معهم من الجبل إلى بيروت.

ما بين 1950 - 1975 اصبحت بيروت مركز التقاء المجتمع الإقطاعي بكامل طوائفه المتناحرة . وأضحى موقعها الجغرافي الوسطي محط اهتمام قادة الكانتونات الطائفية في لبنان.  لقد استفاد أمراء الحرب إلى أقصى حد من ميزات بيروت ،لكنهم أرسلوا إشارات الصدام الدموي التي كان المجتمع اللبناني القديم محتفظا بها. فهم محرومون من خيرات بيروت التي احتكرت مع بعض ضواحيها الثروة الاقتصادية والمعارف والسلطة ، في حين استسلمت مناطق الأطراف لحياة الإقطاع والتخلف والحرمان .كان صعود بيروت السريع سيفا ذا حدين. ففيما أصبحت محور   قوة لبنان في القرن العشرين ،كان سقوطها عام 1975 السبب المباشر لأزمته المستمرة. ثم تراكمت مجموعة عوامل ساعدت،ليس فقط على تدمير بيروت فقط بل غالبية المناطق اللبنانية. منها العداوات التقليدية بين أمراء الحرب، واللامساواة الاجتماعية في توزيع الثروة والفرص، ومؤامرات الشرق الأوسط . فانفجرت مرة واحدة لترمي المدينة في أتون العنف. وحتى العام 2006 لم يظهر تغيير جذري في النظام الطائفي الطبقي المستمر منذ قرون.ومن المحتمل أن  يكون الاحتقان الطائفي في بداية القرن الحادي والعشرين أكثر عنفا منه في سبعينات القرن العشرين. وقد أعاد " اتفاق الطائف" أعاد توزيع السلطة استنادا إلى شروط أمراء الحرب. فكان أكبر إنجاز حققه هؤلاء في "اتفاق الطائف" أنه ضمن دورهم في مستقبل لبنان لأجيال قادمة مقابل تراجع أسهم الدولة العلمانية الليبرالية الديمقراطية.

رأى أمراء الحرب والتجار أن استمرار حزام البؤس حول بيروت ضروري بسبب دوره الهام في رفد الاقتصاد اللبناني بنسبة كبيرة من اليد العاملة الرخيصة في الزراعة والصناعة والخدمات.

وخلال سنوات الحرب الأهلية الطويلة تبخرت صورة " العصر الذهبي للمعجزة اللبنانية " ليصبح لبنان دولة فقيرة هامشية مدمرة ،لديها اقتصاد منهار،ومؤسسات لا تعمل ومناطق صناعية وسياحية وتجارية فقدت وجودها المادي.وفقد لبنان نسبة كبيرة من المثقفين والمتعلمين وأصحاب الكفاءة الذين سلكوا طريق الهجرة أو سقطوا ضحايا القتل والتهجير. لقد هزم لبنان الوطن وربح أمراء الحرب. وسيطرت الميليشيات على المرافئ الشرعية،وخسرت الدولة إيرادات الجمارك .ولتوسيع قاعدة نفوذهم وتحصيل المزيد من المال فرض أمراء الحرب الضرائب،وأقاموا حواجز مالية عند المعابر الرئيسية التي تربط الكانتونات. وعززوا كانتوناتهم ببعثات إلى الدول العربية والأجنبية بحثا عن الدعم المالي خاصة من الجاليات اللبنانية في الخليج العربي،وغرب أفريقيا، ومن القارة الأميركية وأستراليا .

اللافت للنظر أن ظاهرة أمراء الحرب والزعماء والتجار في عام 2006 باتت أكثر رسوخا في المجتمع اللبناني عما كانت عليه في السابق. وأصبح أمراء الحرب والمال جزءا من العولمة بمعناها الإيديولوجي السلبي .فهم ناشطون في المال والسياسة عبر مؤسسات النظام العالمي دون تدخل من الدولة اللبنانية التي يقيمون فيها.وقد تزامنت صعود ظاهرة أمراء الحرب الجدد مع انهيار الإيديولوجيات الشمولية أو التوتاليتارية التي كانت تبشر بالإصلاح والتحرر والتغيير.  فأعاد أمراء الحرب وتجار الهيكل تشكيل دورهم وفق صيغ جديدة ترسخ نفوذهم على مجموعة طائفية معينة ،وفي منطقة جغرافية محددة.ذلك أن الأحزاب الإيديولوجية خسرت أربابها الدوليين، وبخاصة الإتحاد السوفياتي بعد العام 1990.

فلا عجب إذا في أن يسعى أمراء الحرب عام 2006 إلى استجلاب قوى خارجية لدعمهم ضد خصومهم المحليين .لكن السؤال البارز هنا: هل بقي في لبنان طرف يقبل بأن يستغله طرف   آخر،أو أن تكون له امتيازات على حسابه؟ وهل هناك طرف لبناني من أمراء الحرب وتجار الهيكل يفتقد إلى الدعم الإقليمي والدولي؟.لذلك نعيش اليوم زمن الجمود السياسي والاقتصادي .

فأسلحة الجميع، السياسية منها والمذهبية، باتت صدئة ولا نفع منها في معركة يخرج منها الجميع مهزومين.وهم يبحثون مجددا عن نظام توافقي على قاعدة زبائنية تعطل النظام الديمقراطي وتفرغه من محتواه. علما أن النظام الديمقراطي المطلوب للبنان لا يمكن أن يكون مفصلا على قياس أمراء الحرب وتجار الهيكل.يريدون للبنان نظاما هجينا ليس طائفيا ولا علمانيا، نظاما أبعد ما يكون عن الديمقراطية لأنه لا يعترف بالمساواة بين اللبنانيين،ولا باستقلالية الفرد عن طائفته،ولا بالحقوق السياسية للأفراد والجماعات،ولا بأولوية المجتمع المدني.يريدون ديمقراطية شكلية يبقى فيها اللبنانيون أفرادا ضمن جماعات مذهبية متناحرة باستمرار.

أخيرا، منذ الربع الأول من القرن العشرين حتى اليوم أثبت نظام أمراء الحرب والتجار متانته وقوته خلال قرنين من الزمن وصمد أمام التقلبات المحلية والإقليمية والعالمية، الاقتصادية منها والاجتماعية. لذلك ينهي المؤلف كتابه بالقول:" في 2006 ،بدا واضحا أن نظام أمراء الحرب والتجار في لبنان كان في أوج حيويته وديناميته. وقد أجتمع ممثلو الطوائف حول طاولة حوار كانت بمثابة "مجلس ملي" يلغي دور المؤسسات الدستورية أو يؤجل دورها إلى حين الإتفاق على وثيقة حكم جديدة .ولم تكن الحرب مع إسرائيل في صيف 2006 إلا فاصلا في مسلسل الصراع المحلي.ها قد اكتمل تبلر الطوائف الأربع الكبرى،وبات ممكنا فتح صفحة جديدة من فدرالية طوائف نصف مكتوبة وعصر جديد لأمراء الحرب والتجار في البلد الصغير لبنان".

الواقع مأساوي للغاية. أما الحل المقترح،فدعوة رومانسية إلى إجراء ثورة شاملة في نظامنا الاقتصادي والسياسي الطائفي لبناء وطن حقيقي بدلا من " المزرعة " التي نعيش فيها. ثورة يريدها المؤلف شاملة تحت سقف هريان طائفي مستشر، وانفلات الغرائز باتجاه تكديس السلاح لحرب أهلية يمكن أن تقود إلى دمار لبنان وتهجير من تبقى من اللبنانيين.وجميل أن يتلاقى  جورج قرم مع دعوة كمال ديب لإعلان الثورة الشاملة. فوجه النداء الرومانسي التالي: "يا لبنانيي المهجر والوطن، اتحدوا للقضاء على التحالف الجهنمي بين أمراء الحرب والمال   ولبناء دولة الكرامة والعدل والمؤسسات. وهذا يتطلب نفي أمراء الحرب وجميع أفراد عوائلهم إلى خارج الوطن وإلى أبد الآبدين" .لعلها حشرجة ثورية في زمن التكتلات الطائفية الكبيرة وانفلات الغرائز الميليشياوية وانهيار الإيديولوجيات الشمولية.فأين الثوار الذين يقودون الثورة في بلد انشغل فيه قادة الأحزاب العلمانية بمعالجة انقساماتهم الداخلية المزمنة،ولم يعد لهم تأثير مهم   في مجرى الأحداث السياسية في لبنان؟.

إنه لكتاب صادق فعلا وصريح كما أراده مؤلفه.لا يجمل الواقع ولا يجامله.يصدم القارئ ويأمل بدفعه للتغيير وبناء مستقبل أفضل للبنان.ولدى مؤلفه وكاتب مقدمته نوايا حسنة،وحنين لثورة شاملة يقوم بها جيل جديد من اللبنانيين عله ينجح في بناء دولة عصرية،علمانية وديمقراطية.

 

 كلمة الدكتور ايلي يشوعي

كتاب كمال ديب مهم وشيّق يستعرض أهم الأحداث التي طبعت تاريخ لبنان القديم والقريب والحديث بطريقة تسمح لمن قرأه ان يبني استنتاجات مذهلة وحقائق ثابتة وخلاصات مفاجئة. إن كل بحث قيّم كبحث كمال ديب يفيد من يطّلع عليه أكثر بكثير مما يفيد الذي قام به أو كتبه.

من قال ان في لبنان طائفية

من قال ان في لبنان أدياناً سماوية

من قال ان في لبنان ايمانا حقيقيًا

في لبنان مذهبية، مذهبية فحسب. جذورها بعيدة جدا في التاريخ:

السنيّة والشيعيّة والعلوية والدرزية والمارونية والارثودوكسية وغيرها وغيرها ليست وليدة البارحة، هي موجودة منذ زمن بعيد، لها معتقداتها وحضارتها، وكما الجينات تحمل أمراضًا وراثية، كذلك نفس الجينات تنقل الينا المذهبية ايضا بالوراثة.

والمذهبية كما هي ممارسة في لبنان لها امراء، امراء حرب ومال وسلطة يتحالفون مع القوى الخارجية ضد امراء مذاهب اخرى في الداخل، ويرفضون قيام دولة قوية لئلا تهدد نفوذهم ومصالحهم وإماراتهم، فهم يريدونها هشّة، واهنة، زانية، يتقاسمون خزينتها وخيراتها ويوصلون اليها الاعيان والمشايخ والمقاطعجية والممولين والملتزمين المحسوبين عليهم، ويتعامون عن شرطي الكفاية والاخلاق في المناصب والوظائف العامة.

هكذا تصبح المذهبية في لبنان شكلاً من أشكال الوثنية تأسرها المصالح المالية والسلطوية، لا علاقة لها بالايمان والقيم الانسانية والتعاليم السماوية والعدالة الاجتماعية والخدمة العامة ومحبة القريب.

مفكرون كثر بحثوا وكتبوا في القومية العربية،والقومية السورية، والقومية اللبنانية، والعلمنة، وأسس الدولة الحديثة، كان لهم  ولا يزال أتباع ومؤيدون، لكنهم عجزوا عن إسقاط المذهبية، فخرجت

منتصرة من كل تلك المعارك الفكرية وقد نفضت عنها كل غبارها، لا في مطلع احد القرون الوسطى بل في بداية القرن الواحد والعشرين وفي لبنان.

اذاً، اضحت المذهبية ثابتة في لبنان، علينا ان نعرف كيف نتعامل معها للحد من اضرارها الجسيمة.

مذاهب متعددة تميز المجتمعات العربية، لكن حيث يطغى مذهب على اخر، يتجانس المجتمع ويستقر. في مصر عدة ملايين من الاقباط  لكن أيضًا عشرات الملايين من السنة، لذلك يتماسك المجتمع المصري. كذلك في السعودية حيث تطغى السنيّة، وفي ايران حيث تطغى الشيعية وفي روسيا حيث تطغى الارثودوكسية لكن عندما تتوازن  المذاهب في ما بينها، تتفكك المجتمعات وتنقسم على نفسها كما حصل في قبرص ويحصل الان في العراق وربما لاحقا في لبنان.

لبنان مجتمع هشّ غير مستقر ومجموعة من الاقليات المذهبية لها امراؤها. وقد قبلوا عبر ما سمّي بالميثاق الوطني برغم حسن نية البعض منهم، ببناء شبه دولة يتقاسمون مناصبها ومغانمها ويستعملونها لتوسيع رقعة اماراتهم، وتكديس ثرواتهم وتعظيم نفوذهم. في نظام الدولة، تعلو مصلحة الشعب على مصلحة الحكام، في  النظام المذهبي تعلو مصلحة الحكام والامراء على مصلحة الشعب.

فالشعب بالنسبة اليهم كأثاث منزل يحرّكونه كما يشاؤؤن، او كجذوع اشجار يقطعونها لإشعال نار مدافئهم او كتفصيل على هامش حياتهم اليومية. لكنهم يخشون نتائج زيادة نسبة الذين يسقطون تحت خط الفقر المدقع، لان ثورة الشعب اذا اندلعت، هددت مصالحهم وثرواتهم وأولادهم ونفوذهم. وفي كل مرة تنحدر فيها الاوضاع الاجتماعية الى أسفل ويزداد تصدع هيكل الدولة، يحركون أسيادهم في الخارج لمساعدتهم على انقاذ انفسهم من خلال توفير بعض الفتات للشعب الضحية ورأب بعض الصدع في البنيان المترنّح للدولة.

يريدون شعبا فقيرا لكي يكون اكثر تبعية وارتهانًا لهم، معهم لا أمل بدولة قوية حديثة عادلة ولا باقتصاد قوي متقدم واعد.

أهذه هي ثقافتنا السياسية في لبنان وفلسفة وجودنا؟ لا، هي ليست ثقافتنا ولا فلسفتنا، بل ثقافة وفلسفة تجار الهيكل وفريّسسيي لبنان.

كيف نستطيع الحدّ من اضرار المذهبية البشعة؟

في لبنان أناس تغلبوا عليها بايمانهم بالله وبالقريب وبالعدالة والمساواة والحقوق وقدسية العمل وتقدم الانسان، هؤلاء يجب ان يتحدوا ويضغطوا ويفهموا امراء المذاهب ان مصلحتهم تقضي بأن يسمحوا

لبعض الأكفياء في بعض الظروف ومن خارج دائرة الأعيان والممولين والملتزمين ان يصلوا الى مواقع القرار لكي يخففوا من معاناة الناس ويساعدوا على الحد من انهيار المجتمع والاقتصاد والدولة باتخاذ القرارات الصائبة.

في تاريخنا الحديث، ومن انجازات الاعيان وممثلي الامراء في الحكم، ربط الفوائد ومستوياتها بتثبيت سعر صرف العملة اللبنانية ما أدى الى تعظيم الثروات واقفال المؤسسات واغراق الخزينة بالديون، وربط العبء الضريبي بعجز الموازنة الذي تسببت به الفوائد المرتفعة ما أدى الى افقار الناس وتراجع الاستهلاك ونمو الاقتصاد، وفتح الحدود وعدم حماية القطاعات المنتجة ما أدى الى تسريح المهارات البشرية وهجرة الطاقات الشابة.

وفي تاريخنا الأبعد، سقطت امبراطورية انترا في الستينات، لأن المصرف اتبع سياسة محافظة تجاه تمويل امراء المذاهب، فمنعوا عنه السيولة بواسطة الضغط على المصرف المركزي في وقت كان المصرف يتوسع في القارتين الاميركية والاوروبية، فعلق بين مطرقة المودعين وتهافتهم وسندان مؤامرة المذهبيين فسقط.

كذلك فميشال شيحا التاجر الذي رفض العقلية التجارية وقدم فكرًا راقيًا في السياسة والاقتصاد والادارة ودعا الى اعتماد الكفاية مبدأ في التوظيف واعتلاء المناصب، وانتقد جهارًا التحالف بين الممولين ورجال السلطة وامراء المذاهب على حساب المصالح الحيوية للشعب وابقائه في الفقر

والتبعية، لم يستطع مقاومة نفوذ المذهبيين واضطر ان يلعب مصرفه في بعض الاحيان دور الممول لخططهم ومشاريعهم السياسية.

الضغط الثاني على امراء المذاهب  يجب ان يحصل في اتجاه تطبيق اللا مركزية الادارية الموسعة في لبنان التي تقوي صلاحيات الادارات الرسمية داخل اماراتهم من  دون ازعاجهم، وتساهم في احراز بعض النموالاقتصادي  والتنمية الاجتماعية والريفية  ومساعدة الشعب في تيسير اموره اليومية.

المذهبيون في لبنان ينصهرون بسرعة في المجتمعات الخارجية ولا يستطيعونه في مجتمعهم، لان لا امراء في مجتمعات الخارج بل دولاً حديثة راعيةً واعية حاضنة مساندة مدافعة عن مصالح شعوبها وحقوق انسانها.

انادي، اصرخ معك يا كمال ديب، ايها الفاضل والمؤمن والكفوء.

يا امراء المذاهب في لبنان،

يا تجار الهيكل

يا اصحاب الايادي السود والحمر

يا جماعة مال عرق الوجوه والسلطة التي لا تستحقون، أقول لكم، نعم لقد انتصرتم علينا في هذه الحياة المادية الفانية، كما انتصرتم على آبائنا وأجدادنا، لكن المؤمنين الاكفياء في لبنان سينتصرون حتمًا عليكم في حياة لا مادية فيها ولا رداءة.

العذاب اللبناني الطويل ليس على ايدي الغرباء الأشرار كما يقال،  بل على أيدي امراء الحرب والمال وتجار الهيكل والفريسيين الجدد في لبنان. فهل أضحى لبنان رجاءً ضائعًا وأملاً مفقود؟ 

كلمة الدكتور كمال ديب

كنت بصدد ان اعلّق على مداخلات المشاركين في هذه الندوة حول كتابي "أمراء الحرب وتجار الهيكل رجال السلطة والمال في لبنان" وتوجيه الشكر لعدد من الأشخاص. ولكن طالما ان دوري الآن تخطى التعبير الشفوي الى الكلمة المكتوبة بدا لي ان ذلك منحني فرصة لاستعراض بعض الآراء الشخصية التي لم ترد في الكتاب.

أولها، ان ثمة قلق لازمني منذ فرغت عملية التأليف حتى تجسّد المؤلف امامي الآن في حلته الكحلية عن "دار النهار"، وهو قلق يتعدى ما يساور المثقف من انشغال في شؤون المجتمع والانسان الفرد، الى قلق ان يكون كل ما مرّ على هذه البلاد من ويلات، انما هو من نوع من العبثية الصالحة للتكرار، فُيقتل لبنان مرة بعد أخرى، في حين غاب افق الاستفادة من أخطاء الماضي.

ثانياً: ان أمراء الحرب وتجار الهيكل ليسوا سوى تجليات الطوائف بما تنضح به رموزها وأكاد أقول ان أمراء الحرب هم ضحايا هذه الجماعات الطائفية المكوّنة للبنان وليس كما يقال، ان المجتمع هو ضحية امراء الحرب.

وتاريخ العنف اللبناني لم يجأ على حين غرّة عام 1975. في حين ان القبائل اللبنانية ما انفكت عن التعلّق بآلهتها الزعامية في عبادة وثنية فدرجت العادة ان يجددوا البيعة لهم عند كل انتخاب فيصبح امير الحرب او الزعيم اسير قطيعه الطائفي الذي انتخبه، ولكن اذا تراجع عن دوره المرسوم جنح الى الاعتدال واللاعنف وضد الطائفية لفظه هذا القطيع وبحث عن امير حرب آخر يشد من عصبتهم ويقودهم في أتون حروب مستعر.

والملاحظة الثالثة هي شخصية فقد درج عند ملوك الشرق القديم ان يعاقب المرء بالنفي او بالتعليق على الصليب وكثيرون اختاروا الصليب على اساس ان النفي من انواع الموت الفظيعة. هكذا نفى لبنان في فترة 1975 الى 1990 وحتى اليوم قسرياً مئات الألوف من أهله الى اصقاع الأرض ومات على أرضه عشرات الآلاف. بعد سنين طويلة من المغادرة. والانخراط في المجتمع الكندي واندماجي الكامل بقي في داخلي ضجيج بدأ يتصاعد حتى كاد يصرعني منذ العام 1996. وهكذا بدأت قبل عشر سنوات مسيرة القدرة النفسية الى جذوري اللبنانية وما دونته في كتاب ذا طابع شخصي هو "على بوابة الشرق" والمهم أني أعود اليوم الى وطني الاول ومهد أجدادي حاملاً هذا المجلّد من 600 صفحة استعمل فيه مناهج العلوم الحديثة التي اكتسبتها لأقول كلمة باسم جيلي الذي فقده لبنان لقد حصّلنا العلوم والمعارف وحققنا الاستقرار والرفاهية في بلاد بعيدة ما وراء البحار ولكن اغترابنا كان نوعاً من انواع الموت لأننا اختفينا من لبنان المقيم.

وكنا ضحايا مجازيين يجب ان تضاف أسماؤنا الى لائحة من قتلوا في شوارع بيروت الحرب اليومية.

ومما أقوله ايضاً ان كتابي صريح في المسميّات والتفاصيل حتى أضع حداً للمواربة والتعميم غير المجدي. حيث كان تحرري مستنداً الى قول الحق فلا يكون كلامي "نعم" عندما أريد ان أقول "لا". وباختصار أقول في كتاب" امراء الحرب وتجار الهيكل" هذا ما فعله بأنفسهم اللبنانيون وهذا ما يدفعون ثمنه من خراب ودمار وحروب اهلية واقليمية وتعصب وطائفية وديون عامة وانقسامات اجتماعية وهجرة دائمة وموت مقيم في المنازل.

متى يلتحقوا اللبنانيون بالأمم الناهضة ككندا واليابان والصين ويصنعوا معجزات السلام والازدهار؟ ألا يرى اللبنانيون انهم يسيرون دوماً نحو المزيد من الفدرلة والشرذمة؟ ومتى يصنعون وطناً مبنياً على المواطنية الحديثة والانتماء الواضح بعيداً عن شاعريات ومبالغات تستند على جذور العنف؟ لماذا لا يكون هدفهم اكثر تواضعاً وهو السلام الاجتماعي وبناء الانسان وكفى؟

لا اخجل في كل لحظة أن اطالب بنظام علماني ليبرالي ديمقراطي ضمن دولة رعاية ومؤسسات ومنفتح على الشرق والغرب وأقول لكم انني اعيش هذا النظام في كندا وهو عيش ممتع ومريح ويمنح الأمان والطمأنينة التي طالما افتقدتموها وهنا لا بد من هلالين اقول ضمنهما انني اعلن ايضاً انتمائي الصريح للغرب بمعناه التنويري المثقف ومؤسساته وحرياته، ولا اعتبر ان تعابير "الصراع ضد الغرب وضد الثقافة الغربية" سوى محاولات قوى الظلام في المحافظة على التسلط الشرقي. دون ان يعني ذلك عدم مناصرة الشعوب المضطهدة وفي مقدمها طبعاً الشعب الفلسطيني المظلوم او ان نطلب السلام والحرية للشعب العراقي ضمن دولة علمانية ديمقراطية.

ولن ازيد هنا سوى ان ثمة اسماء كثيرة اود شكرها وستطالعونها في مقدمتي في الكتاب. ولكني سأذكر سامية شامي رئيسة دار النهار والقابلة او الأم الروحية لولادة هذا الكتاب وطبعاً سائر افراد اسرة دار النهار العاملين بصمت رغم كل الويلات ويعود الى البال فارس ساسين. واذكر صديقي جورج قرم كاتب المقدمة الذي تعلمت منه شيئين الأول ان لا ننسى الواقع الاقليمي والجغرافي في التحليل والثاني ان للصداقة هامش مريح يسمح باختلاف الآراء والمواقف.

يبقى ان اذكر ان غسان تويني كتب مقال في آب 1976 عنونها "أمراء الحرب" لوصف قادة الميليشيات والزعماء. وهي عبارة رنّت في رأسي وبقيت في مخيلتي عشرين عاماً ونمت ككرة الثلج وانا أعيش في صقيع التوندرا الكندية لتعود إليكم اليوم بحثاً كاملاً وتصبح العبارة عنواناً للكتاب فشكراً أستاذ غسان وأطالبكن بان تواصل الحملة لأجل الزواج المدني الاختياري.

 أعود الى كندا واحداً من أبنائها مساهماً في نهضتها لتكون الأولى بين الأمم الحيّة وأنادي الجيل الذي يعيش في لبنان اليوم أن يعبر الجسر الجديد ويخرج من المستنقعات الى دولة الرعاية ويضع حداً لدولة أمراء الحرب وتجار الهيكل الذين طردهم السيد المسيح قبل ألفي عام وشكراً.