الندوة التي نظمتها الحركة الثقافية - انطلياس

بمناسبة وفاة الدكتور ايليا حريق

 (في اليوم الأخير من المهرجان اللبناني للكتاب 18/3/2007)

 الندوة بمناسبة وفاة الدكتور ايليا حريق
 

كلمة د. عصام خليفة
 

مع وفاة الصديق د. ايليا حريق خسرت الثقافة في لبنان واحداً من أعلامها الكبار، وخسر الوسط الأكاديمي في لبنان وفي جامعات الغرب استاذاً مميزاً بعمق تفكيره وتمكنه من المنهجيات العلمية الحديثة. وفي مجال الأبحاث في العلوم السياسية والإنمائية والتاريخية حول لبنان والعالم العربي يحدث غياب استاذنا الكبير خللاً لا يعوّض.

وباسم الحركة الثقافية - انطلياس التي كان لها شرف استضافته على منبرها اكثر من مرّة، اسمحوا لي، ايها الاوفياء من أصدقاء راحلنا ان نرسل له في المهرجان اللبناني للكتاب (السنة 26) تحية إكبار ووفاء.

تحية اليه بصفته المؤرخ اللبناني الذي درس تاريخ لبنان المعاصر في منهج خاص عميق الأسس. وبحسب قراءاتي لم يتعمق أي مؤرخ في تحليل بنية النظام المقاطعجي والتغيير الذي حصل في بنية هذا النظام (أسبابه ومقوماته واتجاهاته)، كما فعل مؤرخنا الكبير.

فبموازاة التفسير الذي يعيد التطورات الداخلية الى قوى خارجية عالج مؤرخنا مسألة التغيير في نطاق تركيب المجتمع ذاته وتفاعل عناصره المختلفة وذلك بالتفاعل مع قوى التغيير الخارجية.

درس الطوائف ومؤسساتها الاجتماعية والإيديولوجية توقف عند اهمية المدبّر ووظيفته في نظام الإمارة الإقطاعي، حلّل تشابك الحراك بين رجال الدين والفلاحين والمقاطعجية فإذا كتابه (التحول السياسي في تاريخ لبنان الحديث) يشكل مفصلاً حاسماً في كتابه تاريخ لبنان.

وتحية إلى ايليا حريق المفكر السياسي الذي عالج أمراض نظامنا السياسي ووضع الأفكار الواقعية لتقدّم مجتمعنا.

فطالما أكد ان المعرفة والتداول والتشاور هي من اقانيم الديمقراطية وان القيادة السياسية الحكيمة تعتمد على التداول والتشاور كي تخرج بقرارات ذات فوائد اكبر وسلبيات اقل. ولاحظ ان من الخطأ اعتبار نظام الانتخاب اللبناني القائم على التقسيم الطائفي سبباً للسلوك الطائفي او تكريساً للميول الطائفية انما العكس هو الصحيح. وان الطريقة الرئيسية للحد من الصراع الطائفي، في الوقت الحاضر، تظل التقسيم الطائفي المسبق للمقاعد النيابية، وفي المستقبل الزواج المدني والتربية والتقدم الاقتصادي.

وتحية الى ايليا حريق احد كبار الذين تعمقوا في درس الفكرة الديمقراطية بين مثقفينا ولا أغالي اذا قلت ان كتابه (الديمقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب، الصادر عن دار الساقي، عام 2001) هو من أعمق الأبحاث التي لا شك ستبقى تأسيسية مهما طال الزمن.

وطالما أكد مفكرنا ان النظام الديمقراطي يحقق  تدبير أمور المجتمع بطريقة توافقية تحفظ كرامة الإنسان وحرية الرأي والمشاركة في العمل السياسي وفي ممارسة السلطة من دون الوقوع في متاهة الفوضى والاستهتار. وان الديمقراطية نهج في التفكير والسلوك، أساسه الترابط بين قيم متفق عليها اجتماعياً وقواعد سلوكية ذات طابع بنيوي مستنبط.

وقد رأى ان التجربة التعددية في المنافسة السياسية عميقة الجذور في المجتمع اللبناني، ومن الصعب القضاء عليها بعملية عنف انقلابية. ورغم ملاحظته ان سنوات التسعينيات (أي بعد اتفاق الطائف) قد جلبت الى لبنان بعض مظاهر الدولة السلطوية، الا انه اكد في اكثر من بحث: "لم نتعرف في العالم العربي أنماطاً للحكم غير سلطوية سوى في لبنان، الممثل العربي الوحيد للديمقراطية".

وتحية الى ايليا حريق المفكر - الإنسان الناقد لكل مجتمع يهضم الحقوق ويوقع الحرمان بالإنسان أينما كان هذا المجتمع. المفكر الرافض للاستبداد، والمدافع العنيد عن حقوق الإنسان والملتزم بقيم العدالة والمساواة.

الى ايليا حريق، في المهرجان اللبناني للكتاب (السنة 26) وباسم الأكاديميين والمثقفين اللبنانيين، نرفع تحية المحبة والاحترام ونعاهده ان نبقى أوفياء للقيم الكبرى التي قضى حياته مدافعاً عنها، لأننا نؤمن ان بمثل هذه القيم ينتصر شعبنا اللبناني، وشعوبنا العربية، على كل التحديات.

  الندوة بمناسبة وفاة الدكتور ايليا حريق

كلمة منير بشور
 

        قبل وفاة ايليا حريق في الرابع والعشرين من الشهر الماضي كنت اشعر بشيء من الاسترخاص تجاه اللغة العربية عندما يوصف موت احدهم بالغياب او بالرحيل. كان حرصي على المطابقة بين الكلمات والمعاني يدفعني الى التصحيح بأن ما حصل لم يكن غياباً ولا رحيلاً وانما موت لا عودة منه ولا اياب. ولعلّ ما زاد من حرصي على هذا التصحيح ان اخبار الوفيات كثيراً ما تميز بين الناس، فتصف موت المشاهير منهم بالرحيل او بالغياب، بينما تصف موت العاديين بالموت العادي او الوفاة. موت ايليا حريق غيّر من تفكيري والقى بحرصي على سلامة اللغة وعلى المساواة بين الناس في زوايا الاهمال. بموت ايليا حريق عرفت بقلبي وروحي كيف يكون الموت غياباً لجسد لا يمكن للعين ان تراه ولا لليد ان تلامسه ولكنه موجود في القلب والروح، لا يمكن للموت ان يخفيه.

        ولعل ما يسهّل في المعاناة ان ايليا عودنا ان يغيب بجسده ثم يعود. يغيب بضعة اشهر في الولايات المتحدة كل عام ليرجع الى اهله واصحابه في لبنان. وفي هذا الترحال عبرة من نوع آخر: حرص ايليا المستمر على عدم الاغتراب بالرغم من الغياب. بالرغم من غيابه حرص على البقاء على اتصال مستمر بكل ما له علاقة بهذه البقعة من العالم، بقضاياها وثقافاتها وشعوبها وبكل ما يقال او يكتب عنها هنا او هناك، ولم يغترب. وبحث وكتب وناقش حول هذه القضايا والثقافات والشعوب وقضاياها وبين الاكثر اثارة للتفكير ولاعادة النظر بالمسلمات والافكار التي يتداولها الناس، والاكثر دقة في التشخيص وتوجيه النظر الى مكامن الداء وانواع الدواء. كان الهم الذي يسكن قلب ايليا ويدفعه الى الكتابة والبحث والاستقصاء هو الهم نفسه الذي اثار رجال النهضة ونساءها منذ زمن بعيد في القرن التاسع عشر حين تساءلوا عن سبب تأخرنا وتقدّم الغرب واثار انطون سعادة من بعدهم ليسأل ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ ولم يكن جواب ايليا جديداً في كل ابعاده وتفاصيله وانما كان فذاً ونافذاً ومثيراً في بساطته وفي وضوحه وفي تماسكه، ليس في ما نص عليه وحسب وانما في المنهج والاسلوب الذي اتبعه للوصول اليه وفي الدلائل والبراهين التي قدمها لتدعيمه.

        ليس هذا المكان او المجال للاستفاضة في شرح الجواب الذي تركه لنا ايليا حريق، او المنهج الذي اعتمده للوصول اليه ولكن يمكننا ان نسجل باختصار انه يتمحور حول كلمتين متلازمتين هما الحرية والديقراطية. حرية الانسان وحقه في الاختيار واحترام هذا الحق مهما كان واينما كان. الحرية والديمقراطية لا كهدف وحسب انما كهدف ووسيلة في الوقت عينه.

        وكان لايليا تعريفه الخاص وشروحاته الخاصة لما يعني هذا الهدف وكيف يتجلى في حياة الشعوب بصور مختلفة، ولهذا كثيراً ما رفعه في وجه بعض الكتاب في الغرب الذين كتبوا في الديمقراطية والحرية ونظروا الى شعوب العالم الثالث باستخفاف, وسلّط بشكل خاص على ممارسات حكوماتهم تجاه شعوب المنطقة العربية وتجاه قضاياها، ناكراً على هؤلاء الكتّاب والحكومات احتكارهم للحرية والديمقراطية، مشدداً على ان هذه من انتاج جميع شعوب العالم، ساهم في اثرائها وتطويرها كل منها بالطرائق والوسائل التي سنحت لها على امتداد تاريخها في ارتفاعه وفي انخفاضه ولهذا فهي ملك لجميع شعوب العالم كما هي العلوم والاختراعات، وكأني به يدعو جميع شعوب العالم كلها القوية منها والضعيفة الى منطقة وسطى حيث يتلاقى الجميع في كنف الحرية والديمقراطية.

        لقد ترك لنا ايليا حريق ارثاً ثميناً جداً من المؤلفات بعضها معروف ومتوفر بشكل كتب منشورة باسمه باللغة العربية او الانكليزية او مترجمة، وبعضها الآخر منشور في مجلات ودوريات علمية او ضمن كتب تضم ابحاثاً لكتاب آخرين. وكثير من هذه غير معروفة او غير متوفرة للكثيرين خصوصاً هنا في لبنان وفي بقية البلدان العربية. ولعل افضل ما نقدمه لذكراه ان نعمل على جمع هذه الابحاث والدراسات وتوضيبها وتصنيفها وترجمة بعضها ونشره لتصبح في متناول كل من يريد. اذا قدرنا على العمل ونجحنا بانجازه يصبح موته غياباً مؤقتاً عنا مشحوناً بألق الحضور.

 

 

كلمة الدكتور وليد مبارك
 

        تركنا ايليا حريق ورحل عنا بهدوء من دون سابق انذار. تركنا ايليا ورحل عنا فجأة مخلفاً وراءه انتاجاً فكرياً غزيراً وعدداً كبيراً من المريدين والطلاب. ايليا حريق كان استاذي أستأنس بأفكاره واسترشد باعماله. كانت بداية معرفتي بإيليا في عام 1970 عندما ساعدني بالالتحاق ببرنامج الدراسات العليا في جامعة انديانا حيث كان استاذاً. واثناء اقامتي هناك تأكدت بيننا الصداقة فكان لي بمثابة الاخ الاكبر ومرشدي الاكاديمي. فقد تتلمذت على يديه واطلعت من خلال المقررات التي درستها عليه قيمة البحث العلمي والتفكير النقدي السليم. وكان ذلك بمثابة تحدٍّ جديد لي دفعني الى اعادة النظر في كثير من المسلمات الفكرية والايديولوجية التي كان ابناء جيلي قد نشأوا عليها في الستينات من القرن الماضي.

        اتّبع ايليا حريق في دراساته المنهجية الواقعية في علم السياسة. فلم يكن يأخذ بالأشياء كما تبدو للدارس من الوهلة الاولى بل كان يتفحصها وينعم النظر فيها لمعرفة مدى قابليتها للتطبيق. وكان ذلك نتيجة لاسلوبه في التفكير النقدي. وقد درج على هذا المنوال في جميع كتاباته الاكاديمية المكثفة وخصوصاً بالنسبة الى ابحاثه في منطقتي الشرق الاوسط وشمال افريقيا. ففي هذه الكتابات كان ايليا يفرّق بين الديمقراطية كنظرية معيارية وبين الحكم الديمقراطي. وكان يقول عن النظرية الديمقراطية "بأنها مسألة قيَم وقواعد عمل تنص على ما يجوز عمله وعلى ما لا يجوز. الا ان الحكم، أي حكمٍ كان، لا بد له ان يسير على وفاق النواميس الطبيعية في السلوك البشري. وتُكتشف تلك النواميس بالملاحظة والاساليب الاستقرائية ولا يشذّ الحكم الديمقراطي عن هذه القاعدة.

        وتنبع نظرة ايليا حريق الى الحكم الديمقراطي من منهجيته الواقعية في تعريف السياسة وهي يحددها "بانها ليست جمعية اهلية او خيرية بل هي سعي للهيمنة والفوز لذلك هي ببساطة ممارسة اللامساواة المعززة بعقيدة تفرضها أكثر القواعد سوءاً والديمقراطية أيضاً ليست طوباوية ولا هي نظام خبيث الطابع".

        ان هذا المنحى العلمي الذي اتبعه إيليا حريق هو الذي دفعه الى اعتماد الديمقراطية التوافقية كنظام للحكم في لبنان. فإيليا حريق لم يكن طائفياً في فكره بل توافقياً بامتياز لذلك نراه يعتمد الديمقراطية التوافقية سبيلاً للحكم في لبنان حتى ان في إحدى مقالاته اثناء الحرب اللبنانية ايّد ترشيح المغفور له الرئيس صائب سلام لرئاسة الجمهورية. ثم انه ليس كل من يؤمن بالديمقراطية التوافقية هو طائفي. فأطروحة الدكتوراه التي كتبها ايليا في جامعة شيكاغو ونشرتها لاحقاً جامعة برنستون بعنوان "التحول السياسي في مجتمع تقليدي: الحالة اللبنانية"، كان لها اكبر الأثر في نقل اقتناعاته الفكرية من حيّز في المعتقد الى آخر، وذلك للمواءمة مع النظام السياسي التوافقي الذي اعتمده للحالة اللبنانية. وكما ان ايليا حريق كتب عن لبنان فإنه أجرى دراسات حقلية معمقة في كل من مصر والمغرب وتونس.

        فعن مصر مثلاً اصدر كتاباً عام 1972 يعالج التعبئة السياسية للفلاحين المصريين. وقد توصل من خلال ما كتبه الى نتائج ايجابية عن سياسات التغيير الاجتماعي في الريف المصري إبان الحكم الناصري. وكنت أثناء اعداد ايليا لدراسته هذه احد طلابه في موضوع عن الشرق الاوسط ولا ازال اذكر مقولته لي بابتسامته المعهودة بأنه انطلاقاً من هذه الدراسة راح العديد من البحاثة المصريين ينعتونه بأنه ذو اتجاه ناصري. وجدير بالذكر هنا ان ابحاثه عن لبنان ايضاً بما حوته تلك الابحاث من خصائص مميزة للبنان دعت البعض كذلك الى نعته بالكتائبي.    

        يتضمن رصيد ايليا حريق التأليفي عدداً كبيراً من الكتب العلمية والمقالات الثمينة المنشورة في اهم دور النشر العلمية في الغرب والشرق. لذلك غدا عالمياً بحق وكان ينشر باللغتين الانجليزية والعربية. وكان له شغف خاص باللغة العربية وبالفكر العربي والاسلامي والمزج بين هذين الفكرين وما في ثقافة الغرب من تأليف بين الدين والفلسفة. وكان شديد الحرص على ان ينشر باللغة العربية ليوصل فكره الى اكبر عدد ممكن من مجتمعه. من خصائص فكره المميزة انه كان يكره التبسيط في التحليل السياسي والتاريخي. ولا يقف عند الاحداث المدونة فقط بل يبحث عن اسبابها البعيدة مثال ذلك انه انتقد المؤرخ الفرنسي دومنيك شوفالييه انتقاداً لاذعاً لانه لم يرَ في ظاهرة استقلالية جبل لبنان الا نتيجة لجباية الضرائب من الدولة العثمانية. وهذا وقوف عند الظاهر دون النفاذ الى الباطن.

        ويظهر التحليل العلمي عنده في انتقاد المثقفين العرب الذين يريدون تغيير سلوك المواطن دون أي احترام لعقيدته او فكره. ويقول في هذا الصدد ان تغيير معتقدات الشعب اللبناني من قبل بعض المثقفين غير الصبورين هو عمل تسلطي بامتياز لان موقف هؤلاء الداعين الى التغيير لا يبدون أي احترام لمعتقدات هذا الشعب فهم في ذلك يسعون الى تسييره سيراً أعمى والتحكم به بدلاً من الاصغاء اليه. فالتغيير السياسي الملائم لا يتم بقبضة حديدية بل بمماشاة الرأي العام.

        ان طبيعة العلاقة بين الدولة والمواطن وفكرة المواطنية الحقة كانتا تشكلان ركناً اساسياً في توجهات ايليا حريق البحثية. وقد نحا ايليا في ذلك نحواً ديمقراطياً يستقي جلّ افكاره من الفلسفة الليبرالية ومن تجاربه الاختبارية. ولانه كان يؤمن بنشر الديمقراطية وتثبيتها في لبنان وسائر الدول العربية نراه يوجه انتقادات لاذعة الى بعض المستشرقين الغربيين الذين رأوا ان الاسلام لا يقبل الديمقراطية ولا يرتضيها. كما انه انتقد المفكرين العرب الذين لا يأخذون بعين الاعتبار الحاجة الضرورية لمجتمعات البلدان العربية التي تقبل الديمقراطية الليبرالية وذلك عندما يتحدثون عن الديمقراطيات فيها.

        وفي السياق نفسه انتقد ايليا محاولات الادارة الاميركية الحالية نشر الديمقراطية الاميركية وعولمتها بعد احداث 11 سبتمبر داعياً اياها الى التروي والحذر واعادة النظر في اشاعة هذه الديمقراطية آخذة بعين الاعتبار الدوافع السياسية والثقافية والحضارية للدول التي تريد اشاعة الديمقراطية فيها. يقول بهذا الصدد في مقالة نشرها عام 2004 بعنوان "الديمقراطية ومفارقات التنوع الثقافي: ما وراء حجاب التخالف": "ان للديمقراطية اوجهاً عديدة وانها تتكلم بألسن مختلفة لذلك فهي تساعدنا على فهم انفسنا بقدر افضل ان نحن بادرنا الى فهم الآخرين".

        لا يهدف ايليا في نقده الى النقد فحسب بل الى التواصل الحضاري بين الشرق والغرب. فكان احد المؤهلين للقيام بهذه المهمة. وقد ظهر جلياً في كثير من مؤلفاته، اخصّ بالذكر منها كتابه: "الديمقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب" الذي آثر كتابته باللغة العربية لتأمين التواصل مع القارئ العربي، فهو يقول في الفصل الاول من هذا الكتاب عن الديمقراطية وعملية المواءمة: "ان حضارات البلدان النامية لم تكن هي التربة التي نشأت فيها الديمقراطية انما الوعاء الذي يحاول اليوم استيعابها. عملية الاستيعاب هذه تقتضي من دون شك، اجراءات تتميز بالقدرة على تحقيق التلاؤم بين الايديولوجيا والديمقراطية الوافدة وحضارات بلدان العالم النامي بصورة تتماشى مع ذهنيات شعوبها ومسالكهم السياسية".

        ان موضوع الديمقراطية كان الموضوع الاساسي الذي شغل اهتمامات ايليا الاكاديمية في الفترة الاخيرة من حياته. وكنا قد انتهينا معاً في وضع مقترح نظري لتنظيم مؤتمر دولي في رحاب الجامعة اللبنانية الاميركية عن التنوع الثقافي والديمقراطية في العالم الثالث عندما وافته المنية. ولكنه بغض النظر عن أي شيء آخر كان لبنان يشكل محوراً اساسياً في اهتمامات ايليا الفكرية والعاطفية ومؤلفاته عن هذا البلد الذي نشأ فيه وترعرع كثيرة جداً ولا يمكن تعدادها الآن وهي بحاجة الى حلقة اكاديمية خاصة.

وكان ايليا اول المدافعين عن النظام التوافقي الديمقراطي اللبناني والذي تراجع في الفترة الاخيرة بسبب التحولات السياسية الكبرى التي شهدها لبنان والمنطقة وبسبب الاختلالات والضغوطات الحدودية المتكررة الذي تعرض لها هذا البلد الصغير والتي لم يقوَ على استيعابها او التعامل معها. وكان ايليا يرى في صيغته التوافقية التي شاءها للبنان سبيلاً للتعايش بين طوائفه ومذاهبه المتعددة. فقد كان يرى ان هذه الصيغة تقلل حتماً من الطائفية وتبعد اللبنانيين عن الوقوع فيها وتخلق بينهم مساحات مشتركة من المواطنية يلتقون حولها على اختلاف مشاربهم واطيافهم.

        تركنا ايليا ورحل، وكان، رحمه الله، لبنانياً حتى العظم. يفرح لافراحه ويتألم لآلامه. وكان قد اصيب بالاحباط الشديد لما آلت اليه الامور في بلده بسبب حرب تموز فقرر ان لا يزور لبنان كعادته كل سنة وكنا ننتظره بفارغ الصبر لنتزود بما لديه من افكار جديد وكتابات مبدعة.

 

        تركنا ايليا ورحل، وكان صاحب الكلمة الحرة والعقل النيّر. وكان قبل كل شيء استاذي وصديقي الدائم الذي علّمنا التسامح والبذل والتواضع والثبات في الصداقة والحفاظ على الود.

 

 

كلمة املي نصرالله
 

كان اللقاء الاول في دارة الصديقة المصرية في القاهرة. اذكر المشهد جيداً: هو جالس على المقعد العربي، باللباس الابيض العربي (الدشداشة البيضاء) ومن حوله حلقة المدعوين، يحاورونه. قالت الصديقة: ألا تعرفونه؟... ابن بلدكم، الدكتور ايليا حريق، ولا تعرفونه؟... وكان ذلك في اواخر الثمانينات من القرن الماضي، حين كان ايليا قادماً من تونس، ويقوم بأبحاثه في مصر، يشارك في ندواتها ويحاضر في جامعاتها.

وكنت قد انتقلت الى القاهرة لاحقة بزوجي وولدينا حين حولوا اعمالهم الى مصر. وكنت حزينة. (آخد على خاطري) لاضطرارهم الى الهجرة. بعدما دمّرت الحرب الاعمال، واحرقت المسكن وخلفتنا في الضياع.

واذكر كم ان الصديقة كانت فخورة بحضوره وتقدمها الى مدعويها. وجلُّهم من كبار الاساتذة اذ كانت نفسها في مركز اكاديمي مرموق.. كما لها حضورها الفاعل في المحافل السياسية.

قال لي: اقوم ببعض الابحاث هنا، المراجع موفورة. والبلد ليس غريباً عليّ. في الواقع، ان ايليا كان يقدر ان يحوّل كل بقعة يحلّ فيها الى وطن يخصّه، بل الى تلك البلدة الصنوبرية الشامخة فوق تلالها الابيّة: ضهور الشوير.

-       نعم، بلدتي الضهور؛ وكان يقولها بفخر.

في ما بعد، توالت اللقاءات، وجلُّها تدور في اجواء المباحثة والمقابسة والحوار. وكنت الاحظ لدى ايليا صفتين، ميّزتاه دائماً: لطف حضوره وهدوء نبرته، فهو يتحدث برويّة وعمق وقلّما يرفع صوته مهما بلغت حرارة الطرح او النقاش.

وفي ذلك اللقاء الاول، اذكر بأن الصديقة كانت تمازح ضيوفها باللهجة المصرية المحببة، ثم التفتت اليّ وكنت اللبنانية الوحيدة بينهم وسألتني:

-       ألا يبدو ابن بلدكم أشبه بأيقونات القديسين؟ خصوصاً بلباسه الابيض الفضفاض ولحيته اللطيفة الهادئة!...

وراقت الدعابة ايليا فالتفت اليها قائلاً:

-       ارجو ان لا يخيب ظنكم بي.

 

أقفز الى مشهد آخر في مقر "مركز الابحاث الاميركي" وكان يديره الدكتور ايليا حريق. كم كنا نعتزّ به! وبإتاحته الفرصة لنا لحضور منتديات على ذلك المستوى الاكاديمي الرفيع. وكان يتصرف كأنه في وطنه. في الواقع انه كانت لايليا تلك القدرة على تحويل جميع مراكز العلم الى اوطان تخصّه. وكنا فخورين، بصورة خاصة بابن بلدنا، يتبوَّأ ذلك المركز المحترم ويحسن ادارته؛ كما يثير حوله نقاشاً في أحقيّة غير المصري بذلك المنصب. غير ان ايليا لم يتلفظ بكلمة شكوى وحتى بعد خروجه من المركز.

كان هذا طبعه يتعامل مع كل المواقف. ومهما بلغت حديتها وصعوبة تقبّلها بتلك الطبيعة العلمية التأملية الراقية والمنفتحة لا على الآخر وحسب، بل وعلى جميع الاحوال والتحولات.

ويفاجئنا ايليا، ذات يوم، بدعوة للقاء زوجته السا... السا مارستون: كاتبة القصة المميزة للشباب؟ وأين؟... فوق سطع "العوامة" التي استأجرها مسكناً؛ وكأنه يرفض ان يعيش في بلد النيل ويبقى عنه بعيداً... وقد شاء ان نشاطره، زوجي فيليب وانا، ذلك الشعور بالقرب من النهر العظيم وملامسة حضوره.

واذكر انه طوال تلك السهرة، لم تفارقنا هدهدة التيار (تيار النيل طبعاً) وتململ تموّجاته وقد حوّلت العوامة الى ارجوحة عائمة فوق الماء، مما دفع احدهم الى القول: نيالك يا ايليا!؟؟ النيل العظيم يهز لك السرير لتغفو.

ذات يوم، اهداني ايليا كتاباً أدهشني، فهو لا يتعلق بالابحاث السياسية، او تحليلها. بل كان يضم قصصاً للاطفال وكتبها باللغة العربية. وقدّرت ان شوقه الى وطنه وجذوره، ربما دفعه الى كتابة نصوص يغري بها اولاده في غربتهم ويعلمهم لغته الام. ام ان الطفل الذي بقي نابضاً في صور الباحث، العالِم، هو مَن اوحى اليه بذلك العمل؟...

كانت جُلّ أبحاث ايليا ودراساته باللغة الانكليزية، لكنه حين يكتب بالعربية، يعتمد لغةً سلسة ومعبّرة عن فكرة، ببساطة ووضوح، شأنه في ذلك، شأن كل مَن يحمل رسالة، ويعتمد في نقلها، أسهل الوسائل وابسطها.

وكان صاحب رسالة. في عالمنا، حيث تغلب الحماسة والعنتريات على الخطاب والحوار العلمي الهادئ. كان يحمل تلك الرسالة التي تعتمد الموضوعية، وضوح الفكر، والامانة العلمية، بعيدة عن الصخب المنبري وفراغ الارتجال.

 

وفي هذا السياق، كنت شاهداً على لقاء تمّ بالمصادفة، بينه وبين احد زملائه المفكرين، احترم خلاله النقاش، وارتفعت نبرة الصوت من الجانبين. وكانت تلك اول مرة ارى فيها ايليا يبلغ تلك الدرجة من الحدّة. وقدّرت بأن ردّة فعله تلك كانت نابعة من ايمانه، وموقفه الدائم: حماية الموضوعية العلمية، والدفاع عنها، وبأي ثمن.

هذا الباحث، العالِم، الانسان، الطفل، الصديق المحب، الادق، غاب عنّا... بل خُطف خطفاً، وتركنا في ذهول ولا نصدّق... هكذا هو الموت، دائماً يأتي كاللص عند منتصف الليل. لكن ما خلّفه ايليا، سوف يبقى... ذكراه ستبقى دائماً، حيّة ومتّقدة، تغذيها عشرات المؤلفات والابحاث والمقالات في العلوم السياسية، والاجتماعية، والتاريخية، والاقتصادية والفلسفية. ولا فرق ان كتبها بلغته الام العربية، او الانكليزية، فهي كلها تتميز بالمنهج العلمي ومتانة الاسلوب والامانة للحقيقية.

ما غرسه في نفوس كل من عرفهم واحبوه، سوف يبقى.  لطفُ عبوره في هذه الفانية ومحبته.

وكم كان يؤلمه ما يحدث في الوطن الذي حمله دائماً في شغاف القلب والروح. وكم كان يحزّ في نفسه ما يسمع ويرى من سلوك السياسيين، ويردد بأسى، عبارة باتت مأثورة عنه: "اللبنانيون قليلو الاستفادة من تجاربهم".

اما نحن فنظل دائماً نفتقدك، ايها الصديق العزيز، ونفتقد في غيابك لطفَ الحضور، أُنسَ الصداقة الطيبة، والوفاء.

 

كلمة عدنان الأمين
 

فجأة تتصل وتقول أنا هنا، وصلت البارحة مساء. وتقهقه.

تضحك ضحكتك الرتيبة التي ليس فيها مزاح بالمعنى الجدي للكلمة. رتيبة مثل جرس الكنيسة الذي يعلن عن فرح. رتيبة مثل  موسيقى البوليرو التي  تبعث في الاذن ترنيمة التحفيز. رتيبة مثل ضحكة طفل شبع من حليب أمه. انها ليست ضحكة بل صوتا موقعا يفتح باب الحديث والتواصل.

فاتني أن أخبرك أنني دخلت مرة الى المنزل في الربيع الماضي فناداني ابني رمزي وقهقه مثلك. لم يضف رمزي شيئا ولم أسأله. عرفت لاحقا أنكما تحدثتما مطولا. فهمت أنك اتصلت وهممت الى التلفون أفتح باب الحديث معك.

فجأة تصل وتتصل. وتخبرني أن أول شيء ستفعله هو أن تذهب الى الشوير لرؤية والدتك، وباقي أفراد الأسرة. كنت دائم القلق عليها. فهي تجاوزت المائة عام، والأعمار بيد الله. وأنت حريص أن تراها قبل أن تأتيها الملائكة فجأة. قد تقضي عندها بضع ساعات أو يوما أو يومين، لكن المهم أن تمتعها بوجودك، وتطيل عمرها مرة أخرى. في آخر مراسلاتك قلت لن آتي الى لبنان هذا العام، أنا حزين جدا على لبنان. لن آتي الا لأودع أمي. كنت تنتظر أن يصلك خبرها في أية لحظة. لكنك فاجأتها فأرسلت اليها خبرا في لحظة أخرى.

لماذا ذهبت يا ايليا؟ مع من سأسير في ليالي الربيع القادم؟ ألن أسير كما العادة حتى مفرق منزلك قرب البريستول وأنتظر نزولك؟ ألن توافيني هذا العام ونسير باتجاه الحمرا ثم باتجاه المنارة ونعبر كورنيش البحر ذهابا وايابا وننتاقش في قانون الانتخابات والطائفية. ما زالت الموضوعات هي هي يا ايليا. ألن نتحدث بأمور طلابك ونشاطاتك في الجامعة الأميركية واللبنانية الأميركية؟ هل أسير الى مفترق بيتك قرب فندق البريستول وانتظر هناك وحدي حوالي الساعة التاسعة ليلا؟

ويحك يا ايليا. كيف ذهبت لا تلوي على شيء تاركا وراءك هذا الكم من الأفكار والمجادلات. كانت مفاجئاتك مدعاة للاخذ والرد. لكن هذه المفاجأة الأخيرة هي أخذ فقط، من دون رد. فمشيئة الله لا ترد. مفاجئاتك كانت دائما تأخذ طابع الفرضية غير المألوفة، التي تود أن تبرهنها نقطة نقطة، وأن تقيم بنيانها حجرا حجرا. حتى الأحجار كنت تأتي بها من كل مكان وزمان. من الاسلام ومن اليونان. من مصر ومن لبنان. من التاريخ والجغرافيا. من الفلسفة والعلوم السياسية. من بطون الكتب ومن حكايات الناس لدى أهل الشوير وصعيد مصر وانديانا ولدى أصحابك والغرباء عنك. وفوق ذلك كله كنت تفاجئني أحيانا حين تقول: لم أنتبه الى هذه النقطة. هذه المعلومة لم أكن أعرفها. أنا الدخيل غير المتخصص أجد عالما ضليعا في العلوم السياسية مثلك يقول بكل تواضع: فاتتني هذه النقطة. نادرا ما التقيت بشرا في بلادي لا يدعون أنهم لا يمسكون بزمام الأمور، أو الذين لا يدعون أنهم بنوا بيتا وانتهوا تماما من بنائه، لا فراغ فيه لأي حجر ولا مجال فيه لأي تعديل. بيت الفكر عندك، في كل موضوع، هو دائما قيد البناء، يحتمل الفراغات ويحتمل التعديل. جدرانه مكشوفة ونوافذه وأبوابه كلها مشرعة على الفضاء. بيوت أفكارك لا تقع خلف سور عال، عصي على الاجتياز. ولا هي مارد داخل قمقم، ولا أرنب تحت برنيطة. غريب أنت. كيف كنت حزبيا، قوميا سوريا، وتخليت بهذه الرشاقة عن الأجوبة الجاهزة وعن سلطة الخطاب، وعن ادعاء صنع الأعاجيب؟ كيف أصبحت بناء لبيوت أفكار لا ينتهي تشييدها وان كانت أشكالها ووظائفها واضحة المعالم؟

لم أتفق معك في الربيع الماضي حول رأيك بقانون الانتخابات. كنا نسير على الكورنيش، ونتحادث وأتعلم منك. أدهشتني مرتين. كنت دائما تدهشني مرتين. مرة اذ تتعامل بايجابية  مع ما اقول، أنا الذي اعتدت على رفض اجمالي، أصله يساري، لما يخالف رأيي. ومرة اذ تتعامل بايجابية مع ما تقدمه الوقائع الاجتماعية والسياسية على الأرض. تنظر بايجابية الى البنى التقليدية، أكانت طوائف أم عشائر، وأنت غير تقليدي. وتنظر بايجابية الى الاسلام وأنت المسيحي. وتنظر بايجابية الى الشرق وأنت الغربي الثقافة. وتنظر بايجابية الى لبنان وأنت الأميركي الجنسية والمسار الأكاديمي والمهني. وتنظر بايجابية الى التوافق بين الجماعات وأنت الفرد المنخرط في الديمقراطية العددية.

أيها الرجل الايجابي ابق معنا. سرك أنك تدرك أن الأفكار الجاهزة لم تنفع في بلادنا، أكانت غربية أم شرقية، قومية أم اسلامية أم يسارية. وأن التجربة المعاشة والأفكار العالمية تحمل بذورا ايجابية، ولا بد لها من أن تتلاقح. وأن في البشر، كل البشر، ايجابية ما يجب البحث عنها وتظهيرها.

في كل فقرة كتبتها، وفي كل مقال أو فصل في كتاب قرأته لك، في كل حديث دار بيننا أو سمعته بينك وبين آخرين، كنت أنت نفسك، كأنك تقوم بمرافعة. تفحص كل فكرة تقولها وكل فكرة تقال، وتقلبها على أكثر من وجه، تقصها وتقشرها، ترمي ما ترميه وتستبقي ما تستبقيه حتى تعيد تركيبها. وفي مساعيك هذه تكون حريصا أن يقتنع القاصي والداني، الكاتب والقاريء، القاضي والمتهم وباقي الحضور، بما تقول، وصولا الى الصورة الاجمالية وليس الى الفكرة النهائية. واذا ما كانت هنك فكرة نهائية فانك تعود وتخضعها للفحص مرة ثانية في وضعية جديدة واطار جديد. وتفاجيء الجميع ليس فقط بما تقول وانما بأن هذا القول ما زال يستحق التفكير.

يقول وليد مبارك أنك متواضع. وهذا مايفسر عنده أن مساحة انتشار أعمالك أصغر من مساحة نطاق أفكارك. أظن أنه محق تماما. وأضيف أنك كنت بناء والجمهور يحب البيوت الجاهزة. يفضل العائلة البطريركية والطبقات الاجتماعية والتوافقية والديمقراطية والمقاومة والعلمانية و14 آذار و 8 آذار والأمة الاسلامية والارشاد الرسولي. وغيرها.

يا ايليا الحبيب، كان يجب أن نتعلم منك أكثر. كان يجب أن تعاشرك أجيال اضافية لكي تصير مساحة قرائك مثل مساحة افكارك. كان يجب أن تعيش عمرين.

لكنك فاجأت الملائكة أيضا. كانت الملائكة تحسب أن قامتك المديدة، ووجهك النظر، وحميتك النباتية وحيويتك ورشاقتك، أمور سوف تضاعف عمرك. ففاجأتها واتصلت وقلت هاأنذا وصلت الآن للتو.

ولم تخبرنا، ولا ودعت أمك.

أنا، نحن اصدقاؤك، نحن أسرتك ومحبوك، نناديك، ونقول لك عش معنا عمرا ثانيا.

 

كلمة مسعود ضاهر
 

        عرفته لسنوات طويلة،وقامت بيننا صداقة حميمة،ولقاءات حوارية لا تنسى. كان شديد التواضع وممتلئا من الداخل. إختار أن يكون نباتيا حتى لا تغريه مباهج الحياة وأطايبها. لم أذكر يوما أننا إختلفنا حول مسألة تاريخية أو ثقافية أو سياسية إلا وكانت حلوله جاهزة للخروج منها بالإحترام المتبادل والود المقيم.وكثيرا ما كان يداعبني بقوله : " إختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية".

منذ سنوات قليلة ،قررت هيئة تحرير مجلة "المستقبل العربي" إجراء حوار ثقافي معمق مع عدد من كبار مفكري العرب في القرن العشرين .فوقع الإختيار علي لإجراء حوار مع الشيخ عبدالله العلايلي،وقسطنطين زريق،وسليم الحص،وعبد العزيز الدوري، وإيليا حريق. لكن الظروف لم تسعفني إلا لحوار مع الرئيس الحص الذي زودني بمجموعة كتبه الكاملة لدراستها ومناقشة أفكاره من خلال مؤلفاته.أما العلايلي وزريق فكانت أوضاعهما الصحية غير مستقرة ،يقيم الدوري في الأردن.فإتجهت لإجراء الحوار مع صديقي إيليا حريق،وكنت أعتبر الحوار معه سهلا للغاية لأنني على معرفة دقيقة بتفاصيل أبحاثه،وعلى إتصال دائم معه بعد أن قرر السكن في بيروت لأشهر عدة في كل عام.وقد أمدني فعلا ببعض مؤلفاته على أمل أن يكملها في مرات قادمة. كنا من طينة واحدة نعتقد ان الزمان أمامنا،

ولدينا متسع كبير منه.لكن المنية عاجلته وبات الحوار معه غيابيا ،ومن حواضر الذاكرة التي إعتورتها ثقوب كثيرة. 

منذ ثلاث سنوات،وبمساعدة مباشرة من إيليا حريق،ذهبنا معا برفقة عصام سليمان إلى نابولي الجميلة بدعوة من صندوق التنمية التابع للأمم المتحدة .آنذاك إكتشفنا أن إيليا حريق معروف عالميا أكثر مما هو معروف في بلده لبنان.فقد تحدث في جلسة الإفتتاح،وترأس جلسة التوصيات الختامية.وكانت غالبية المشاركين في المؤتمر يتحينون الفرصة لإجراء حوار معه.كان تواضعه يجذب إليه الجميع،وهو تواضع العلماء الممتلئين ثقافة إنسانية معمقة،والقادرين على التحاور مع الآخر بإحترام شديد وبأكثر من لغة عالمية.

ذات ليلة،كنا على طاولة عشاء جميل بما لذ وطاب من النبيذ وثمار البحر.فخطرت في ذهني بعض الأفكار الطارئة. سألته بصورة فاجأته:

  - ما رأيك،ونحن ننتظر وصول عصام، أن نجري الحوار الليلة في هذا الجو البهيج؟.            

  - أجاب : اليوم خمر وغدا أمر.

  - قلت معاندا: ليس المطلوب أن نتناقش،ولا حتى أن تتكلم أنت، بل سأرتب معك العناوين 

    الرئيسية فقط ،وبسرعة قصوى حتى لا نفسد الجلسة.

-أجاب : لا بأس ،وبإختصار.

- قلت:لو فكرت يوما في أن أنجز حوارا ثقافيا على أعلى درجة من الدقة والموضوعية والشفافية معك لإعتمدت عنوانا مستوحى من كتابك" التحول السياسي في مجتمع تقليدي"، ولقلت: " التحولات" في حياة إيليا حريق"،دون إضافة :سياسية،أو ثقافية،أو منهجية وغيرها. بإعتقادي إن تحولات إيليا حريق في حياته هي خير دليل على ثقافته.ولعله أكثر المثقفين اللبنانيين الذين ينطبق عليهم قول عمر فاخوري الشهير في كتابه " أديب في السوق "،حين قال :"إذا لم تكن حياة الأديب نموذجا على أدبه فهو أديب فاشل ".ومن المعروف أن إيليا حريق مفكر ناجح جدا،وحياته هي الكنز السحري لكشف أسرار ثقافته. فقد شهد سلسلة تحولات أبرز عناوينها:تحول من الريف إلى المدينة،وتحول في السياسة،وتحول في المنهج التخصصي،وتحول في المكان والزمان.

        تبسم إيليا بظرفه المعهود وقال : بصراحة،أتمنى عليك شخصيا أن تعالج  هذه التحولات فقط دون أن تضيف إليها تحولات أخرى. فهي تعبر بصدقية عن حياتي التي هي مرآة لثقافتي كما أشار صاحبك الفاخوري.

قلت : لكن دراسة تلك التحولات تحتاج إلى فريق عمل بكامله،على أن يصدر عنه كتاب وليس مقالة.

أجاب: لقد إتفقنا على العناوين العريضة،أما التفاصيل فتأتي لاحقا.

أكملنا تلك السهرة الجميلة في نابولي،وإلتقينا بعدها مرارا .وكان يسالني غامزا: هل أنجزت مقالتك عن " تحولاتي؟".فكنت أجيبه بالأسلوب عينه: وهل مددتني بكامل أبحاثك حتى أكتب عنها؟

دار الزمن دورته القاسية،فغادرنا إيليا خفية،ودون إشارة للوداع.وها أنا اليوم أكمل حواري معه بإشارات إضافية عن تلك التحولات .

أولا : لقد تحول إيليا حريق من الريف إلى المدينة لكنه بقي،حتى آخر يوم في حياته،قرويا بإمتياز.كان متمسكا بكل ما هو إيجابي في تراث القرية،وجمالها،وتواضع أهلها،والإلفة بين سكانها.وقد صرف الكثير من وقته لتدريس تقاليد الريف اللبناني، ونشر عنه مقالات على غاية في الدقة والموضوعية لأنه تعبير صادق عن معرفته العميقة بالريف وأهله.

ثانيا: تحول في السياسة .فبعد أن خبر حماس الإنتساب إلى الحزب القومي السوري الإجتماعي في مطلع شبابه،تأكد لاحقا ،كما تأكدت أنا شخصيا،أن إنتساب المثقف إلى أي حزب سياسي أو تنظيم   يضع في عنقه قيودا ثقيلة دون أن يقدم له فوائد تذكر .لا بل إن ظلم ذوي القربى من السياسيين المسطحين في الحزب نفسه هو أشد مضاضة من جميع الإساءات التي توجه للمثقف الحزبي أو العضوي في عالم متخلف كعالمنا العربي،لا بل في العالم كله.ولدينا أمثلة لا تحصى من لبنان،على  سبيل المثال لا الحصر،كما جرى مع رئيف خوري،ويوسف يزبك،وسليم خياطه،وفؤاد الِشمالي ، وميشال سليمان،وقدري قلعجي ،وغسان تويني ،وأدونيس،وموسى شعيب ومئات غيرهم.

ثالثا: تحول من المنهج التخصصي في العلوم السياسية إلى المنهج الشمولي في دراسة المجتمع بأبعاده المتنوعة.فإيليا حريق متخصص في العلوم السياسية،لكن غالبية الباحثين يصنفونه ضمن مناهج أخرى. فهو مؤرخ،وعالم إجتماع،وإقتصادي،وأنطروبولوجي،وباحث في تاريخ الحضارات،وعلى دراية عميقة بتاريخ الثقافات والأديان.إنه مثقف عالمي بإمتياز لأنه يمتلك  ثقافة الحوار الإنساني والشمولي مع كل من يحمل ثقافة تنويرية،وديموقراطية،وعقلانية،وعلمانية،من أي بلد جاء،وإلى أية ثقافة إنتمى.  

رابعا: تحول في المكان والزمان.فهو باحث مقيم في جامعة إنديانا،ومدير مركز أبحاث فيها.لكنه كان مترحلا دوما بين الجامعات العربية،والأوروبية،والأميركية .وقد أمضى فيها سنوات طويلة،وشارك بنشاطات ثقافية لا حصر لها.وكان حريصا على إنارة الزاوية التي يكون فيها دون أن  تغريه مظاهر الأكاديمية وحياة المكاتب في الجامعات المرموقة.

هذه مجرد إشارات سريعة عن بعض تحولات هذا المفكر اللبناني،العربي،الأميركي،العالمي .وهي خواطر تنم عن ود وتقدير له في يوم ذكراه.ومع أنني عازم على تحويلها إلى مقالة مطولة،فإنني أدعو المنابر الثقافية اللبنانية،وبالتحديد الرابطة الثقافية في إنطلياس،إلى تنظيم مؤتمر ثقافي لدراسة فكر إيليا حريق بصورة معمقة،على أن تصدر في كتاب تكريمي وفاء لهذا المفكر اللبناني الفذ  .                                         

 

 

كلمة جوزيف أبو نهرا
 

        أن يقيّض لك القدرُ الشهادةَ لإيليّا حريق العالم والصديق بعيد رحيله المفاجئ، فأمرك يسيرٌ وعَصِيٌّ في آن. يسيرٌ لما اكتنز إيليا في شخصِه المميّز من مزايا وشمائل بحيث تحار أين تبدأ وكيف تنتهي. وعصيٌّ لما تشعر به من إرباك مع هول الخسارة، إذ لا بدّ أن تتهيّب الموقف بعد الفراغ الذي تركه في أعماق القلوب والحنايا. أنت تخشى، مهما قلتَ فيه ومهما أوتيت من بلاغة، ألاّ تفيه حقّه، وذلك لاستحالة الإحاطة بكل جوانب شخصيّته المتعدّدة الأبعاد والمزايا.

        إيليّا، يا طيب الصداقة ويا شرف الوفاء. أستميحك عذراً إن قصّرت في تعداد كلّ مزاياك. وأسألك عفواً إن خدشت، في مديحي لك، رقّة تواضعك وأنت الرهيف الحسِّ الخفيف الظلّ. كنتَ في حياتِك تتململ من الإطراء، وتنزعج من سماع المديح، فكيف بك اليوم بعد ملاقاة وجه ربّك الرضيّ وقد أصبحت معاييرك سماويةً سامية ولم تعد كمعاييرنا ترابية حقيرة فانية ؟

        نجتمع اليوم، بدعوة كريمة من الحركة الثقافية في انطلياس، ونتحلّق أهلاً وأصدقاء، في جلسة وفاء عائلية حميمة، معطّرة بأريج ذكراك. فغضَّ الطرف إذا سلّطنا بعض الضوء على أخلاقك الخيّرة وعطاءاتك النيّرة في مجال كتابة تاريخ لبنان، وأنت من كان يتجنب الأضواء في حياته.

        لقد عشت بخفَرٍ وتواضعٍ وبصمت. وأعطيت من عقلك ومن قلبك بسخاءٍ وبصمت. وكابرت على نزفِ قلبك لجراح الوطن وبصمت. ورحلت، يدك على المحراث، لا لفتة إلى الوراء وبصمت، كما يرحل الكبار الأكابر.

        ايليا حريق العالم باحثٌ رائدٌ في تاريخ لبنان الاجتماعي والسياسي. بلغت شهرة مؤلّفاته الآفاق فتلقّفتها وأنا طالب جامعي أتلمّس طريقي المتعثّرة في سعيي إلى التخصّص في مجال التاريخ بعد تخصّصي في الحقوق والعلوم السياسيّة. قرأت مؤلّفاته وشغفت بفكره قبل أن ألتقيه فكان لي القدوة والمثال. وعندما التقيته وتعرفت على شخصه أسرني بنبل أخلاقه وسعة علمه، وزدت به إعجاباً على إعجاب.

        كان لقاؤنا الأول في بيت المرحوم شقيقه نجيب وزوجته العزيزة دنيز، جيراننا في زوق مكايل. ثم تكرّرت اللقاءات والزيارات العائلية فتوطّدت صداقتنا وكثرت أحاديثنا عن تاريخ لبنان ومناهج كتابته وعن سلسلة النكبات التي حلّت بالوطن الجريح. بعد تعرّفي إليه زاد ميلي إلى البحث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وأنا مدين بكثير لإيليا حريق. كم ذلّل لي من عثرات في هذا المجال، وكم سدّد من خطى، وكم فتح من آفاق !

        أعجبت في نهجه العلمي بثلاث مزايا : ليونته الفكرية التي تسمح له التكيّف بسهولة مع أي معطى جديد، ومنهجه التحليلي والنقدي، وطروحاته الفريدة والجريئة. في لقاءاتنا الأخيرة كنا نناقش معاً مشروع كتاب مشترك بينه وبيني عن بنية نظام الحكم في لبنان وآلية تطوره، منذ عهد الإمارة وحتى عهد الاستقلال. لكنّه رحل فجأةً وطويت معه فكرة المشروع. لقد كانت المرّة الأولى والأخيرة التي أخلّ معي فيها إيليا بوعدٍ فغاب عن موعد.

        كان ايليا حريق متحرّراً من الأفكار المسبقة والمواقف المثبتة وفي سعيٍ دائمٍ وحثيث لإبراز الحقيقة وإثبات الحق. التزم وهو طالب في الجامعة الأميركية، بعقيدة الحزب القومي السوري. وكان، كلّما زاد اطّلاعاً ونضوجاً، يزداد تحرّراً ويفلسف هذه العقيدة فيتساءل عن مدى تطابقها مع الواقع التاريخي. طرح تساؤلاته للمناقشة ضمن الأطر الحزبية فقوبلت طروحاته بالرفض، وأمام إصراره على ضرورة إعادة النظر بالقناعات العقائديّة انطلاقاً من معطيات الواقع وعبر التاريخ، اضطرّ إلى ترك الحزب.

        سافر إلى لندن للتخصص وأخذ بالابتعاد شيئاً فشيئاً عن ثنائية الأمّة - الحزب بعد أن أدرك أن فكرة الدولة والمواطنيّة هي أقرب إلى المنطق. إنصرف إلى دراسة أشكال الحكم وأشكال العلاقة بين الدولة والمواطنين وحقوق وواجبات المواطن في إطار القوانين الوضعية.

        اهتمّ حريق بدراسة تاريخ لبنان الاجتماعي والسياسي إنطلاقاً من التحولات الاجتماعية الداخلية في القرن الثامن عشر. حلّل التباين الاجتماعي الذي كان قائماً بين الدروز والموارنة في عهد الأمراء الشهابيين. أظهر دور الكنيسة المارونيّة في تسهيل عملية الانتشار المسيحي في مختلف المناطق اللبنانية وفي التحرّر من سيطرة رجال الاقطاع، مركّزاً على الإديولوجيّة التي رسمها الموارنة لنفسهم كقوم لهم شخصيتهم التاريخية المميّزة.

        أمّا إيليا حريق الإنسان فحدّث ولا حرج عن طيب الشمائل ونبل الخصائل. عمر قلبه الكبير بالمحبّة الصادقة فغمر أصدقاءه بها فوّاحة مدرارة يعطيها بسخاء من دون منّةٍ وحساب.

        كان يأسرك بدماثة أخلاقه ويفتنك بدفق مكارمه. فهو دائم التأهّب للعطاء، حريص على بثّ الطمأنينة والراحة إلى من هم حوله، أقربين كانوا أم أبعدين.

        تستطيب مجالسة ايليا وتستعذب مآنسته لروحه المرحة وحبّه للنكات، ولما يشعرك به من دراية وعناية، حتّى ولو كنت على اختلافٍ معه بالموقف أو بالرأي. كان متحرراً من الأفكار المسبقة والمواقف المثبتة وفي سعيٍ دائمٍ وحثيثٍ لإبراز الحقيقة وتأكيد الحق.

        تتّسع آفاقك دوماً في محادثة ايليا لتدرك سماءً جديدة على موفور كرامةٍ وإباءة نفس. كان قليل الكلام كثير الإنصات، يتأمّل بصمت ما آلت إليه الأوضاع في لبنان ويتحسّر من عبثية رجال السياسة فيه واستهتارهم بمستقبل الوطن وأمن المواطنين، حتّى انفطر قلبه الكبير لوعةً وأسىً. أنا لا أصدّق أنه مات لضعفٍ في القلب أو لخللٍ في وظيفته، بل مات بعلّة حبّ لبنان وفي سبيل عزّته ورقيّ إنسانه.

        ايليا، يا فوح الطيب وبوح العندليب، أيّها الغالي الحبيب. نحن اليوم لسنا في صدد استذكارك واستحضارك لأنّ الذكرى والاستحضار للغائب، وأنت مستمرّ الحضور. ذهبت ولم تغب. وجودك معنا في نبض القلب ونور العقل وفي الوجدان.

        صديقي ايليا، أنت المرتاح اليوم في علياء العلي القدير، أدرى منّا بنسبيّة المكان والزمان بعد أن تعرّفت مواجهةً إلى المطلق اللامحدود. إنّك ولا شكّ تعلم علمَ اليقين بأنّه، مهما دار الزمان وتبدّل المكان، حضورك سيبقى متألّقاً بيننا فوّاحاً كالعطر في البال.