ندوة حول كتاب الدكتورة جيمي جان عازار بعنوان :

النار وأشكالها في شعر منصور الرحباني

 

كلمة الدكتورة ربى سابا حبيب

كتابك دكتورة جيمي عازار مهمّ ؛ أشكرك على هذا الاختيار ، ففي تناولك شعر هذا الكبير من بلادي ، يتراءَى لي أنّني في لقاء مع المحيط أو في عملية استعادة وطن . فكلمات منصور الرحباني تخترق العناصر محرّرةً الشعلة الشعرية لتوقظَ الدفين في الرماد ، حينها تنطلقُ رؤاه في ضياء الكون ، كي تحرّر أو فتُعْتَقْ .

فمنصور الرحباني كما عاصي كما صديقي الغالي الياس ، أناس مشغولون بمسألة الزمن التي حَلَّت في نتاجهم كمساءلة إلهية في حركة الكواكب وتجدِّد الحياة .

دكتورة جيمي عازار كاتبة وناقدة رصينة ، طموحُها مزدوج ، فهي كما خطّطت وتتوخّى استنباط طريقة موضوعية في دراستها الأدبيّة علّها تساهم بفهم الأعمال الأدبيّة . تقول : «عمدتُ إلى تثبيت المعنى ولاحظتُ أن في ظهور أي موضوع مؤشّراً إلى ظهور الموضوعات الأخرى وأي صورة لقادرة على الكشف عن المعنى بأكمله . . .»

لقد أصابت في هذا العمل وحقّقت الموضوعية التي استهدفت منذ البداية فلقد رصدتُ لها في الصفحتين 11 و12 كلمة موضوعية ستّ مرّات . . .

وكلّما تقدّمتُ في تلق كتابك دكتورة جيمي أيقنتُ مدى العمق في التحليل ، واختيار المقاطع لتثبيت القول . (ص 33)

تقترب النهاية

تصرّخ الأبواق

يا فرح الوصول

يا نهاية الرواية

فلنتحِّد بالضوء ، بالدوائر المشِعّة .

بيَّنتِ كيف يغدو النور ملازماً لحياة منصور الرحباني ، والنور منبع النار نراه يحلق وينصهر انصهاراً كاملاً عن طريق ذلك الشغوف . فـ «الشعاع دائم الانبعاث وهو شرط ارتقاء الكيان إليه ، لزوم الانحلال والتحلّل كما تتمثّل الكاتبة برأي الدكتور جورج سعادة . . . وأنا سألت الأستاذ أسامة عن القلق الوجودي عند والده الكبير أجابني دون تردّد : «كان مطمئناً في النهار ومتشائماً في الليل . . .» أي أن الخلاص يأتي من خلال الضوء celaveuttoutdireمنصور الرحباني ، أنا الغريب الآخر . (ص 39)

تقول الكاتبة : ان مثالَ الجمال الأسطوري بخاصّة تموز هو من أهمّ المثل الجمالية في شعر منصور . . . نعم . ففي منتصف القرن العشرين ترجم جبرا إبراهيم جبرا مجلّداً واحداً من موسوعة جيمس فريزر JamesFrazerالغصن الذهبي LerameaudOrإلى العربية ، الذي يتناول أسطورة الموت والانبعاث في الحضارة المشرقية والبطل أدونيس المضرج بدماءِ أرضنا والمنبعث من أرضنا من كثرة دموع عشتروت . فلقد تلقى شعراؤنا هذه الأسطورة بحبّ وبشغف لأنها تمثّلُ أرضنا التي تموت وتحيا في كل آن . . . وقد انسحب هذا الرمز على شعراء كثر منهم أدونيس ، خليل حاوي ، بدر شاكر السياب حتّى أنهم لٌقِّبوا بالتموزيّين . (ص 37-38)

دكتورة جيمي أكرّر شكري لك لأنّني تلقّيت كتابك كدعوة لي للكتابة عن كبيرنا منصور الرحباني . إزاءَ عنصر النار هناك عنصر الماء كما أسَرَّ لي الأستاذ أسامة الرحباني ؛ لذا ومن خلال كتابكِ وبعد قراءتي لشعر منصور الرحباني أطرح أسئلة عديدة عن فلسفة الكون في نتاجه ، حيث ضمَّتْ توانينه حقلاً مشتعلاً وكلمات مفاتيح لإعادة صوغ الوجود فهو يرتفع بالعناصر والنعم ويتخلّص من المادة وأدرانِها بالإنتقال من اللاشيء إلى ما يُولده الله : الكائن Dieuenfantelêtreفالخالق هو الدافع في بحثه عن حقيقة الكون في مفهومه ، يتبدى لنا انه العارف يدرك كل شيء ، عكسالارتيابيّين الشاكيين lessceptiquesquesais-je . فكرة أوسع من المدى ينتقل من الواقعة ، إلى المثال ففي ذاته تتكثّف وتتفاعل على كل العناصر والمفاهيم .

رؤيا الجمال lebeauensoiكأنها الضرورة في تولّد الفكرة والقول تؤكّد فكرة التناغم بين الجمال ومفهوم الخير المطلق عند اليونان وبين التناغم الجمالي عند كانت Kant . والكاتبة أوضحت كيف هما عاملان بارزان في عملية الكتابة عند شاعرنا .

لغة منصور الرحباني جديدة ، تنضمّ إلى لغة التموزيّين وهذه اللغة بحاجة إلى دراسة بلغة نقدية تتجاوز المألوف كما فعلت الدكتورة جيمي في مفهوم النار وفي اجتراحها . هذا الخط البياني المتطوّر .

لنسمعه في فكرة الموت

غنّوا يا أطفالي

نمشي يمشي معنا الموت

يا موتى الحاضر فيا

يا من ولدته أمي

يقول سيرين كيفكارد في BiensPhilosophiquesعن فكرة الموت أنها راقصة محترفة unedanseuseexperte .

فمن منّا لا يرقص مع فكرة الموت ؟ فمنذ سقراط وهذه الفكرة ملاحقة وهي عند الاغريق تجتز من ما يثير العواطف lepathétiqueبحيث انها تشهد على خلود النفس والروح والانتقال من اللاشيء إلى الكائن ، تتبدّى الحقيقة بالخلق أي الخلق من عدم .

منصور الرحباني كما سقراط يولد بشهادة من الله stunaccoucheurdiplomédeDieu(enfantement) .

لقد بيّنت الكاتبة استقلال النص وكيف أنه لا يوقفُه أو يحصرُه في مدلول نهائي يُغلق الكتابة بل هو نصّ مفتوح لأرضيه خصبه للدراسة . هنا نخالف رولان بارت RolandBarthesفي تحديده للنصّ : كمجموعة من النصوص المتداخلة يتحوّل المؤلّف عبرها إلى مجرّد ناسخ .

هنا النصّ الشعري حديث ، يلغي الحدود بين الأجناس الأدبيّة بحيث أنه يبني خطاباً تجميلياً جمالياً . . والنار الرمز في تحوّلات عدّة/فمن طبيعته (أي الرمز) الحقيقية إلى طبيعته الأسطورية . . فهو رمز متحرّك كما شرحت لنا الكاتبة الجادة انه في الأطفال ، في رحِم الأمّ ، في أرض البلاد ومع الغرباء .

لكنّه لا يتحوّل أي الرمز إلى رمزٍ حضاري كما عند خليل حاوي في السندباد بل يستعين به كي ينشط قصيدته في مسارها للولوج في علاقات الرمز المركبة . هكذا ومن خلال الرمز تتحقّق الوحدة الكاملة في شعره .

لذا أنظر إلى كامل نتاجه لأجدَ أن الوحدة العضوية تترصّد هذا الشعر ، والصورة الشعرية الجزئية المعتمدة على الضوء والقمر والنجوم كما تبرهن الدكتورة عازار ببراعة ترتبط بالصورة الكلّية ارتباطاً عضوياً . فكلّ صورة عند «كبير» : تتصل عضوياً بالتجربة الكونية والوجودية عنده كي تسعف حركة القصيدة الداخلية وحين سألت الأستاذ أسامة الرحباني عن ثقافته وقراءاته قال لي أنه قرأ سارتر وتيار دي شاردن ThéarddeChardinلذا أصابت الدكتورة عازار في إلقاء الضوء على العلاقة بين الثنائيات الضدية أي ثنائيات الأنا والآخر ، الهنا والهناك ، الواحد والمتعدّد في هذين الديوانين وبيّنت وهي الأكاديمية بعياقة كيف أنها أي الثنائيات تمتلك في جذورها فاعليات الجواب رغم التضاد والكمال والتناغم والإغناء .

لذا نستقرئ التداخل بين عناصر هيراقليط فالنار كما الماء ومن ثم التراب والهواء ؛ كلّها يستعين بها شاعرُنا .

فالماء أيضاً :

 

كالحزن

وجه امرأة مجهولة

بيني وبين زوجتي

يبني سدودَ ماء

بالغة الصفاء

تباعد الأرض عن السماء

وبعد :

ارسم في التراب

أشرعةٌ وأنجز فيها

سقطت في الماء أيّامُ الكتابة

وفي موقع آخر يقول :

هذا العدم القادم كالأسوار عينا الشّاعر تريان الأسوار التي تحيط بالكائن وكيف أن العدمَ يتداخل في وحدة العالم وهو جواب مطلق كما في سفر التكوين كما عند الرواقيّين .

وكان لي صديقي

بقيةٌ من عمر = أطعمتها للنار

هذا شاعر معلم : فهو تارة في دهشة طفل أمام الموج وطوراً فيلسوفاً أمام حركة الماء في وسع البحار . فكلّ ما لديه لا نهائي في جوهره وتحوّلاته .

هذا شاعر يلتقط اللحظة الهاربة ويؤبدُها .

وصلتْ النهاية للنهاية . . .

والمسافة الواقعة بين السنة اللهب لا تنفي عند الرحباني وعداً أبديّاً تنهمر فيه التحوّلات والولادات ، لتشتعل حركةُ الخلق في حركة اللوغوس «الكلمة» داخل الذات العبقرية . فهي أي ألسنةُ اللهب توحّد ما تفرّق وهو أي الشّاعر واحد يختصرنا (نحن الجماعة) .

في عملية امتزاج المخلوق بالخالق ، الزمن كأنّه الأزل ، والنار كما الضوء أساسان لهناءة الروح . أقول له مستعينة بقول صديق كبيرٌ صلاح ستيتيه «الجسد من نار Lecorpsétantdefeuوالظلّ كالثلج LOmbredeneige» .

لقد أتى منصور الرحباني إلى فضاء هذا الكون شاعراً بنبرة نبوية آمرة والبيت الشعري عنده مصوبٌ كإصبع .

والنفس معتملة بالاستحالة ، استحالة الحبيبة ، واستحالة الوطن المنشود .

«أنا في الأفكار المستحيلة

المرسل من أعماق الإنسان

إلى الإنسان . . .

وبعد :

وجهي كالبرق يأتي من وطني الممنوع

من مطارحَ محجوزة

حيث السماء والتماعُ النار

هي سيوفنا القديمة

قبلَ أن يحرقني بردُ الرمال . . فهو لا يرسو في مكان ، لا غرب ولا شرق رموزه كونية نابعة من هذا الأسى الوجودي ، يتبدّى لي أنها الغربة الغربة الانطاكية القائمة في ذاته لتوَلدَ هذا الهدير وهذا الصفاء limpiditéالآتيان من شعراء المشرق القدامى . . . حيث الحكمة غير مهدّدة بل منتصرة أو ليس لأنه القائد القائد Virtuoseالمتعمّد بالماء نورِ الحياة وماءِ الذات العليا .

أودّ أن أُضيف النار الخفية في شعره هي نار الضوء واللهب الروحي النوراني الحيّ والحرّ المطلق .

فليرتفع صوتُه أبداً لتتفجّرَ ينابيعُ عمقه في أرض البلاد وسمائها .

ويحلو لي أن أختمَ في هذا الكنيز . . بقول لجلال الدين الرومي :

«منذ الأزل ، كشف الحبيبُ ذاتَه لذاته في مرآة نفسه ، بمعزل عن الزمان والمكان ، فدلَّ السروُ على سمو قامتِه ونمَّ الوردُ عن بهاء طلعته . . .»

كلمةالدكتورةربىساباحبيب

كتابك دكتورة جيمي عازار مهمّ ؛ أشكرك على هذا الاختيار ، ففي تناولك شعر هذا الكبير من بلادي ، يتراءَى لي أنّني في لقاء مع المحيط أو في عملية استعادة وطن . فكلمات منصور الرحباني تخترق العناصر محرّرةً الشعلة الشعرية لتوقظَ الدفين في الرماد ، حينها تنطلقُ رؤاه في ضياء الكون ، كي تحرّر أو فتُعْتَقْ .

فمنصور الرحباني كما عاصي كما صديقي الغالي الياس ، أناس مشغولون بمسألة الزمن التي حَلَّت في نتاجهم كمساءلة إلهية في حركة الكواكب وتجدِّد الحياة .

دكتورة جيمي عازار كاتبة وناقدة رصينة ، طموحُها مزدوج ، فهي كما خطّطت وتتوخّى استنباط طريقة موضوعية في دراستها الأدبيّة علّها تساهم بفهم الأعمال الأدبيّة . تقول : «عمدتُ إلى تثبيت المعنى ولاحظتُ أن في ظهور أي موضوع مؤشّراً إلى ظهور الموضوعات الأخرى وأي صورة لقادرة على الكشف عن المعنى بأكمله . . .»

لقد أصابت في هذا العمل وحقّقت الموضوعية التي استهدفت منذ البداية فلقد رصدتُ لها في الصفحتين 11 و12 كلمة موضوعية ستّ مرّات . . .

وكلّما تقدّمتُ في تلق كتابك دكتورة جيمي أيقنتُ مدى العمق في التحليل ، واختيار المقاطع لتثبيت القول . (ص 33)

تقترب النهاية

تصرّخ الأبواق

يا فرح الوصول

يا نهاية الرواية

فلنتحِّد بالضوء ، بالدوائر المشِعّة .

بيَّنتِ كيف يغدو النور ملازماً لحياة منصور الرحباني ، والنور منبع النار نراه يحلق وينصهر انصهاراً كاملاً عن طريق ذلك الشغوف . فـ «الشعاع دائم الانبعاث وهو شرط ارتقاء الكيان إليه ، لزوم الانحلال والتحلّل كما تتمثّل الكاتبة برأي الدكتور جورج سعادة . . . وأنا سألت الأستاذ أسامة عن القلق الوجودي عند والده الكبير أجابني دون تردّد : «كان مطمئناً في النهار ومتشائماً في الليل . . .» أي أن الخلاص يأتي من خلال الضوء celaveuttoutdireمنصور الرحباني ، أنا الغريب الآخر . (ص 39)

تقول الكاتبة : ان مثالَ الجمال الأسطوري بخاصّة تموز هو من أهمّ المثل الجمالية في شعر منصور . . . نعم . ففي منتصف القرن العشرين ترجم جبرا إبراهيم جبرا مجلّداً واحداً من موسوعة جيمس فريزر JamesFrazerالغصن الذهبي LerameaudOrإلى العربية ، الذي يتناول أسطورة الموت والانبعاث في الحضارة المشرقية والبطل أدونيس المضرج بدماءِ أرضنا والمنبعث من أرضنا من كثرة دموع عشتروت . فلقد تلقى شعراؤنا هذه الأسطورة بحبّ وبشغف لأنها تمثّلُ أرضنا التي تموت وتحيا في كل آن . . . وقد انسحب هذا الرمز على شعراء كثر منهم أدونيس ، خليل حاوي ، بدر شاكر السياب حتّى أنهم لٌقِّبوا بالتموزيّين . (ص 37-38)

دكتورة جيمي أكرّر شكري لك لأنّني تلقّيت كتابك كدعوة لي للكتابة عن كبيرنا منصور الرحباني . إزاءَ عنصر النار هناك عنصر الماء كما أسَرَّ لي الأستاذ أسامة الرحباني ؛ لذا ومن خلال كتابكِ وبعد قراءتي لشعر منصور الرحباني أطرح أسئلة عديدة عن فلسفة الكون في نتاجه ، حيث ضمَّتْ توانينه حقلاً مشتعلاً وكلمات مفاتيح لإعادة صوغ الوجود فهو يرتفع بالعناصر والنعم ويتخلّص من المادة وأدرانِها بالإنتقال من اللاشيء إلى ما يُولده الله : الكائن Dieuenfantelêtreفالخالق هو الدافع في بحثه عن حقيقة الكون في مفهومه ، يتبدى لنا انه العارف يدرك كل شيء ، عكسالارتيابيّين الشاكيين lessceptiquesquesais-je . فكرة أوسع من المدى ينتقل من الواقعة ، إلى المثال ففي ذاته تتكثّف وتتفاعل على كل العناصر والمفاهيم .

رؤيا الجمال lebeauensoiكأنها الضرورة في تولّد الفكرة والقول تؤكّد فكرة التناغم بين الجمال ومفهوم الخير المطلق عند اليونان وبين التناغم الجمالي عند كانت Kant . والكاتبة أوضحت كيف هما عاملان بارزان في عملية الكتابة عند شاعرنا .

لغة منصور الرحباني جديدة ، تنضمّ إلى لغة التموزيّين وهذه اللغة بحاجة إلى دراسة بلغة نقدية تتجاوز المألوف كما فعلت الدكتورة جيمي في مفهوم النار وفي اجتراحها . هذا الخط البياني المتطوّر .

لنسمعه في فكرة الموت

غنّوا يا أطفالي

نمشي يمشي معنا الموت

يا موتى الحاضر فيا

يا من ولدته أمي

يقول سيرين كيفكارد في BiensPhilosophiquesعن فكرة الموت أنها راقصة محترفة unedanseuseexperte .

فمن منّا لا يرقص مع فكرة الموت ؟ فمنذ سقراط وهذه الفكرة ملاحقة وهي عند الاغريق تجتز من ما يثير العواطف lepathétiqueبحيث انها تشهد على خلود النفس والروح والانتقال من اللاشيء إلى الكائن ، تتبدّى الحقيقة بالخلق أي الخلق من عدم .

منصور الرحباني كما سقراط يولد بشهادة من الله stunaccoucheurdiplomédeDieu(enfantement) .

لقد بيّنت الكاتبة استقلال النص وكيف أنه لا يوقفُه أو يحصرُه في مدلول نهائي يُغلق الكتابة بل هو نصّ مفتوح لأرضيه خصبه للدراسة . هنا نخالف رولان بارت RolandBarthesفي تحديده للنصّ : كمجموعة من النصوص المتداخلة يتحوّل المؤلّف عبرها إلى مجرّد ناسخ .

هنا النصّ الشعري حديث ، يلغي الحدود بين الأجناس الأدبيّة بحيث أنه يبني خطاباً تجميلياً جمالياً . . والنار الرمز في تحوّلات عدّة/فمن طبيعته (أي الرمز) الحقيقية إلى طبيعته الأسطورية . . فهو رمز متحرّك كما شرحت لنا الكاتبة الجادة انه في الأطفال ، في رحِم الأمّ ، في أرض البلاد ومع الغرباء .

لكنّه لا يتحوّل أي الرمز إلى رمزٍ حضاري كما عند خليل حاوي في السندباد بل يستعين به كي ينشط قصيدته في مسارها للولوج في علاقات الرمز المركبة . هكذا ومن خلال الرمز تتحقّق الوحدة الكاملة في شعره .

لذا أنظر إلى كامل نتاجه لأجدَ أن الوحدة العضوية تترصّد هذا الشعر ، والصورة الشعرية الجزئية المعتمدة على الضوء والقمر والنجوم كما تبرهن الدكتورة عازار ببراعة ترتبط بالصورة الكلّية ارتباطاً عضوياً . فكلّ صورة عند «كبير» : تتصل عضوياً بالتجربة الكونية والوجودية عنده كي تسعف حركة القصيدة الداخلية وحين سألت الأستاذ أسامة الرحباني عن ثقافته وقراءاته قال لي أنه قرأ سارتر وتيار دي شاردن ThéarddeChardinلذا أصابت الدكتورة عازار في إلقاء الضوء على العلاقة بين الثنائيات الضدية أي ثنائيات الأنا والآخر ، الهنا والهناك ، الواحد والمتعدّد في هذين الديوانين وبيّنت وهي الأكاديمية بعياقة كيف أنها أي الثنائيات تمتلك في جذورها فاعليات الجواب رغم التضاد والكمال والتناغم والإغناء .

لذا نستقرئ التداخل بين عناصر هيراقليط فالنار كما الماء ومن ثم التراب والهواء ؛ كلّها يستعين بها شاعرُنا .

فالماء أيضاً :

 

كالحزن

وجه امرأة مجهولة

بيني وبين زوجتي

يبني سدودَ ماء

بالغة الصفاء

تباعد الأرض عن السماء

وبعد :

ارسم في التراب

أشرعةٌ وأنجز فيها

سقطت في الماء أيّامُ الكتابة

وفي موقع آخر يقول :

هذا العدم القادم كالأسوار عينا الشّاعر تريان الأسوار التي تحيط بالكائن وكيف أن العدمَ يتداخل في وحدة العالم وهو جواب مطلق كما في سفر التكوين كما عند الرواقيّين .

وكان لي صديقي

بقيةٌ من عمر = أطعمتها للنار

هذا شاعر معلم : فهو تارة في دهشة طفل أمام الموج وطوراً فيلسوفاً أمام حركة الماء في وسع البحار . فكلّ ما لديه لا نهائي في جوهره وتحوّلاته .

هذا شاعر يلتقط اللحظة الهاربة ويؤبدُها .

وصلتْ النهاية للنهاية . . .

والمسافة الواقعة بين السنة اللهب لا تنفي عند الرحباني وعداً أبديّاً تنهمر فيه التحوّلات والولادات ، لتشتعل حركةُ الخلق في حركة اللوغوس «الكلمة» داخل الذات العبقرية . فهي أي ألسنةُ اللهب توحّد ما تفرّق وهو أي الشّاعر واحد يختصرنا (نحن الجماعة) .

في عملية امتزاج المخلوق بالخالق ، الزمن كأنّه الأزل ، والنار كما الضوء أساسان لهناءة الروح . أقول له مستعينة بقول صديق كبيرٌ صلاح ستيتيه «الجسد من نار Lecorpsétantdefeuوالظلّ كالثلج LOmbredeneige» .

لقد أتى منصور الرحباني إلى فضاء هذا الكون شاعراً بنبرة نبوية آمرة والبيت الشعري عنده مصوبٌ كإصبع .

والنفس معتملة بالاستحالة ، استحالة الحبيبة ، واستحالة الوطن المنشود .

«أنا في الأفكار المستحيلة

المرسل من أعماق الإنسان

إلى الإنسان . . .

وبعد :

وجهي كالبرق يأتي من وطني الممنوع

من مطارحَ محجوزة

حيث السماء والتماعُ النار

هي سيوفنا القديمة

قبلَ أن يحرقني بردُ الرمال . . فهو لا يرسو في مكان ، لا غرب ولا شرق رموزه كونية نابعة من هذا الأسى الوجودي ، يتبدّى لي أنها الغربة الغربة الانطاكية القائمة في ذاته لتوَلدَ هذا الهدير وهذا الصفاء limpiditéالآتيان من شعراء المشرق القدامى . . . حيث الحكمة غير مهدّدة بل منتصرة أو ليس لأنه القائد القائد Virtuoseالمتعمّد بالماء نورِ الحياة وماءِ الذات العليا .

أودّ أن أُضيف النار الخفية في شعره هي نار الضوء واللهب الروحي النوراني الحيّ والحرّ المطلق .

فليرتفع صوتُه أبداً لتتفجّرَ ينابيعُ عمقه في أرض البلاد وسمائها .

ويحلو لي أن أختمَ في هذا الكنيز . . بقول لجلال الدين الرومي :

«منذ الأزل ، كشف الحبيبُ ذاتَه لذاته في مرآة نفسه ، بمعزل عن الزمان والمكان ، فدلَّ السروُ على سمو قامتِه ونمَّ الوردُ عن بهاء طلعته . . .»

 

____________________________________

 

كلمة الدكتور الياس صالح

دكتورة جيمي : لقد وضعت أناملَكِ على شعاع حضاري لا يغيب . وأنتِ الأستاذة البارعة في إيقاظ الصورة والصوت في كينونتنا الإنسانية لمبدعين عبروا إلى المطرح الأعلى .

حيّاكَ يا منصور وبيّاك . فأنتَ في النار وأشكالِها ، كما أنت في الضوء والروح : مادةٌ نورانية تتسامى حتّى تغدو مع اليقظة الكونية المطلقة ، فعلَ عطاءٍ لا ينضب ، يبحث في الليالي المقمرات عن الحقيقة واليقين . إن التعابير التي أغنيتَ المسرح الرحباني بها وغنّيتَها ، لا تزال شظايا حروفِها في متاهات العقل المتعطّش يفتّش دائماً عن فعل ارتواءٍ لتساؤلاته الكونية .

إذا عدنا إلى الأصالة والجذور ، فأنت هناك : نبعٌ متدفِّقٌ بكلّ تفاصيل الجمال الروحي .

وإذا ماشينا الحداثةَ ، فأنت أيضاً هناك بكلّ المعطيات المتوهّجة أملاً وتطلّعاً إلى الفوق .

لقد كنتَ يا منصور ربيعَ الحياة ، المتفجّر جمالاً وتنوّعاً وفعلَ خَلقٍ رائعٍ رائدٍ متواصلٍ مع الزمن ومع الطبيعة المشبعة بالأحلام الوردية الصافية . لا بل سبقتَ زمنَكَ مسافاتٍ طويلة .

دكتورة جيمي عازار . أرى منصور الرحباني يوجّه لك تحيّتين : واحدة للمحبّة التي غلّفت أعمالكَ عنه ، وواحدة لعمق البحث الذي ترجم أقواله والمعاناة ، وصوابية الرؤية التي نقلت فكره النيِّر وعطاءه الرائع . لأن المراجع المسؤولة تخاف الإبحار في مساحات المجد ، وتتهيّب الوقوف أمام عظمة العمالقة . فكنتِ أنتِ فعلَ الإيقاظ يدلّنا إلى سطوة الكلمة الحرّة ، النابضة إشراقاً وإيماناً وخلوداً . . .

من وقت ما السحر انحشر

ببلادنا ، وكانت دني

كان الجمال اللي انتشر

بربوعنا ما ينحني

منصور ورفيقو القمر

يغزل صوَر

يرسم دُرَر

يحكي حكايا ملوّني

بالعز ، بليالي السمَر

يوعّي غنى التاريخ عالمسرح

يغزل من خيوط الوحي مشلح

تا يلبّسو للمجد

ويحلا الحلا بلبنان

وينعس قمر نيسان

ومنصور مش نعسان

 

هيدا وطن منصور

أرض ما يتشبع

عزم وحلا وبخّور

كلمات ما بتركع

أبطال ما بتوقع

منصور مع عاصي ومع فيروز

يمكن نقلّو للزمان رجاع

ونفتح حنايا الأرض حتّى تساع

هَو آلهة بالفنّ والإبداع

بإبداعن جبين السما مدروز

بيجوز بعدن يلتقى فنّان

بس متلن ما بقى بيجوز

____________________________________________

كلمة الدكتور جورج طراد

 

  تنطلق الدكتورة جيمي عازار في بحثها هذا من ايمان مزدوج: أولا بشاعريّة علَم من أعلام الفن الراقي في لبنان الحديث هو العبقري منصور الرحباني ، وثانيا بأنه يشكِّل ذروة اللقاء بين الموسيقى والشعر من جهة، وبين المسرح الغنائي والرؤيا الجمالية من جهة أخرى، هو الذي تخطى الفوارق وكسر الحواجز بين العامية والفصحى ليثبت ، بموهبته النادرة، أن الشاعريّة أكبر من الحدود المصطنعة التي يفتعلها المنظِّرون، وأن الإبداع الحقيقي نسْغٌ حيوي لا يأبه للوعاء الذي يحتويه. وقد نجحت الدكتورة جيمي في ابراز عبقرية منصور الرحباني في الجمع بين الغنائية الشفافة والرؤيويّة الفكرية العميقة.

  من الواضح أن تقسيم الدراسة، وإن ارتدى الطابع الأكاديمي الصارم، ابتعد عن الجفاف الذي عادة ما يصبغ الدراسات الجامعيّة. وفي هذا ميزة كبرى لأن طلابنا غالبا ما يميلون إلى الابتعاد عن النظريات المعقّدة وينجذبون إلى حيوية النتائج الملموسة التي يتم التوصل إليها تارة بالإستقراء المدروس وطورا بالاستنتاج المنطقي. وقد أثبتتْ الدكتورة جيمي بأنها أستاذة متمرِّسة في المجاليْن معا.

  فبعد أن حدّدتْ أشكال النار، راحت تتحرّى عن تجلياتها المختلفة في مجموعتيْ " أنا الغريب الآخر " و" أسافر وحدي ملكا" للشاعر منصور الرحباني.فالصباح، وهو أحد أشكال النار، نقيض لليل الذي يوحي بفكرة الزوال، لكن منصور الرحباني، كما تؤكد الدكتورة الباحثة،يتمسك بفكرة الصباح المشرق ويقرنه بعمر الشباب فيولد وقت آخر/ وترسم الصباح من عنّابه/ صبيّة صغيرة/.

  أمّا حين  يأتي دور الشمس، محرِّكة الصباح ومولِّدة النار في الطبيعة العزيزة جدا على قلب الشاعر، فإن منصور الرحباني يتماهى بالنور، ويندلع في حالاته جميعا" شمس الينابيع/ أنا/ شعائر الصيف/ أنا/ وكلما تحطمت/ ريح على البحر/ أنا/ فتستنتج الدكتورة جيمي من خلال ذلك أن الشاعر" يلتزم الحياة ويسعى إلى بلوغ الثبات من خلال شمسه التي لا تغيب والتي تذكِّره بصورة الخالق القادر". لكن دفء الشمس يتعطل إذا ما اصطدم  بالظلم، كما حين يصبح طفل العذاب" شمسا/ على الماء/ لا تشرق وليست تغيب/".

  وتلتقط الدكتورة الباحثة بحساسية مفرطة شفافية منصور الرحباني المتحسِّس للرحلة الأخيرة الموشكة فيصرخ في " أنا الغريب الآخر ": تقترب النهاية/ تصرّخ الأبواق/ يا فرح الوصول/ يا نهاية الرواية/ فلنتحِّد بالضوء، بالدوائر المشِعّة.../. إنه الضوء جسر النور وسليل النار. إنه هاجس منصور الرحباني المسكون بالقلق وبالرغبة الحرّى الدائمة في تخطي الذات وصولا إلى المطلق حتى يقول : ما بين الرأس/ وبين الغفوة/ بعدٌ ضوئيٌّ شاسع/ وامرأة تغسِل جرح الأرض/

   وكذلك الأمر حين تتمدّد أشياء الليل الحبلى بكل أشكال النار من ضوء ودفء وحلم بالشموس ولمسٍ للنجوم. تقبض الدكتورة الباحثة على شاعرنا الشفّاف متلبِّسا بالانخطافة الغراميّة وهو يتساءل: " كيف يجيء صوتك الفضيّ يا صديقتي في الليل؟/ أيّة دربٍ/ تسلك الحمامة الصوتيّة؟/ يا سهرة/ طويلة/ دارت على الخطّ الذي يعبر بين الخوف والمقاتلين/.

  وحين يطلع القمر لا يتساءل الشاعر كما في إحدى مسرحياته " لشو تطلع يا قمر؟"، انما يضاء قلبه لتلك الحسناء من عنّابة، فيقول لها مواعدا: " ...علامتي/ إليك في الليل القمر" وتقبض الدكتورة جيمي بمهارة ذكيّة على إحدى التماعات الشاعر الكثيرة إذ يقول: " ...أنا هو التحوّلات/ والجذور/ والأعماق.../ سكنتُ بين الصمت/ والنعاس/ والقمر/".

  حتى النجم فإنه في رؤى منصور الرحباني حمّال وجوه وحقل معجمي لكل الاحتمالات التي ترصدها الدكتورة جيمي وتلاحقها واحدا واحدا حتى تستنفدَها جميعا. فنجوم الزرقة/ ساعات/ ترصد أرقام الكون/. كذلك" المحبّون غدًا/ صحبتهم/ غربة النجم/ وصمتُ الحجر/ . حتى الحبيبة، الملتبسة الحالات والأوضاع والتطلعات فإنها " نجمة الفرار"تارة و" نجمة عصر راحل "تارة أخرى. غير أنها في الحالات جميعا نجمة قد تكون بعيدة المنال إلا في خيال شاعر متفرد مثل منصور الرحباني أتقن القبض على جوهر الأشياء واحترف إعادة صياغة العالم بالموسيقي وبالكلمات.

  فشكرا للدكتورة جيمي عازار على هذه الإحاطة بأشكال النارفي شعر منصور الرحباني الذي لا نشكّ لحظة واحدة في أن عطاءه المشع سيبقى شعلة لا تنطفىءيعود إليه الباحثون الجادون على الدوام ليستخرجوا من كنوزه الدفينة ما يساعدنا على تجديد إيماننا بالإنسان في هذه الأزمنة الصعبة.

 

______________________________________

 

 

كلمة الدكتورة جيمي عازار

مسا الخير

" البطل ما بموت، والدمّ حبر الحقيقة" ، كلمةٌ كتبها المعلّم " منصور الرحباني" يوم أهداني الأعمال المسرحيّة الكاملة للأخوين رحباني، وها أنا ألتقيكم اليوم في ذكرى غياب الكبير منصور ، عساني أجمعُ خيوطَ مسيرةٍ رحبانيّة أدبيّة نسجتُها بسحر الرّيشةِ وولعِ القلب.

لقاؤنا في هذه الأمسية بخورُ محبّة، وعطرُ ذكريات، هي الرؤيا الأنثويّة وقد اخترتها عنوانًا لمداخلتي الليلة معرّجةً من خلالها على الثقافة الشعبيّة عند منصور الشاعر.

اختارت المرأةُ   في أعمال منصور الرحباني الشاعر موقعًا مكلّلاً بالشفوف والغَنَج والحزم والقدسيّة. فالصفات الأنثويّة كلّها زخرفت مكانها بمهارة في قصائده وإن تزاحمت الأدوار أحيانًا.

بدايةً مع المرأة \ الجدّة، وقد حاكت الخيوط الأولى لثقافة شعبيّة خالدة ، فهي " تحفظ الكثير من الفلكلور والتراثيّات ، لأنّها نشأت بين عينطورة المتن والبقاع، ترتجل الزّجل منضطرّ إلى الردّ يقول منصور ، وتحكي لنا عن القبضايات والجنّ..." . (منصور يروي لطلال الشتوي كل الحكاية، مجلة طرابلس بوست).

المرأة/ الأم ، وهي رمز العطاء ، " تعطي بمجانيّة كما تقدم الشجرةُ ثمارَها ، فلا القاطفُ يشكر الشجرةَ ، ولا الشجرةُ تنتظر لفتةَ شكر" .

إن رحلة الشاعر بخاصة عندما يذكر جدته ووالدته وحتى خالته كلاسيكيّة، لكنّه سرعان ما يتحوّل صوب رومنسيّة متقلّبة مكسّرًا قيود القصيدة العربية ، لتظهر فيها المرأة / الحبيبة في قوالب ثائرة.

وما اللغة العاميّة في هذه القصائد سوى سوارٍ عُلّق على صفحات القلب قبل العقل. يقول ميخائيل نعيمه : " من الطبيعيّ أن يكون الشعر المنظوم بلغة المخاطبة أحبّ إلى قلب الناس وأفعل في روحه من ذلك المنظوم بلغة سيبويه ، وطبقًا لعروض الخليل..." .

يتغزّل الشّاعر بحبيبته قائلاً:

" يقبروني عيونك الخضر الوساع

هالزيحو سهل البقاع..." (بحار الشتي ص  9 ).

فالفعل هنا علنيّ يقابله صمتٌ من الحبيبة في قصيدة " والحزن لونو ليلكي" :

" وإختا تقلاّ شو بكي

وكيف بدها تحكيلها

ومش آخده معها حكي..." . (بحار الشتي ص 14).

الإعلان والصمت يقابله مشهد الامتداد والحضور، إذ تظهر الحبيبة وهي المدينة والقرية، مكانٌ واحد يختصر المسافه:

" صرتي المسافه

والبيوت

واقف أنا

تحت السما

ومحاصر بوجّك

يا قاعده عمتضحكي ببيروت... " (بحار الشتي  ص 18).

ونتابع مسار الرّؤيا الأنثوية لنكتشف سحر الثلاثين، فالحبيبة هنا هي العمر :

" شو عمرك ثلاثين... وبتكذب" . (بحار الشتي ص 47).

العمر القَلق ، وهي حال طبيعيّة لأن الإنسان متعلّق بزمانه، ولكي يشعر بالطمأنينة ، جعل منصور من المرأة غاية للبقاء:

" ولو كرمالي اكذبي

دخلك ما بدي روح

هلّق أنا عرفت الدني

وإنتي الدني ..."  (بحار الشتي ص 108).

وبين الزوال والقيامة حبيبة ساحرة تحلّق في رحاب العمر:

" ليليه بنسالك شباكي مفتوح

بلكي بيجي خيالك ياخدني ويروح" (بحار الشتي ص 55).

ويختم منصور رحلته الرومنسيّة مع المرأة الحبيبة برحيل تريز زوجته فيقول:

" غلبني موتك غلبني ع العمر غلبني

من حالي وقعت تكسرت

انكسرت ... " (بحار الشتي ص 140-141).

ينتقل منصور الرحباني إلى الرموز لتكون المرأة في قصائده المُنقذة:

" ما بين الرأس

وبين الغفوة

بعدٌ ضوئيّ شاسع

وامرأة تغسل جرح الأرض..." (أسافر وحدي ملكا ص 108)

هذه المسافة هي الإدراك ، والبعد الضوئيّ هو الذاكرة، والمرأة تنشد إيجاد العالم المتكامل الذي يخلو من الحقد والنزاعات. كأننا نتذكّر دور مريم العذراء التي استوجبت بوجودها وجود الحب.

شهرزاد المحرّرة صورة أخرى عن المراة المُنقذة رسمها منصور في إطار تاريخيّ لأنه كان مولعًا بالتاريخ، بينما عاصي كان مولعًا بالأفكار الغريبة وبالقصص التي لا تُصدق".

" وكان شهريار     يسهر كلّ ليله

مستوحشًا فصار    سجين ألف ليله

            وصار سجين الحكايه

            فقلتُ للحكايه

             ألا حرّري السجينات

             انهضن يا سجينات

             أنا شهرزاد " ! (قصائد مغناة ص 34).

رمزٌ آخر يطهّر مسار المرأة في عالم منصور ويثبتها في زمنه ، هو الأيقونة:   

" كنتِ أكثرنا اتصالاً بالينابيع

ويوم رحلتِ

اجتاحتنا شراسةُ حضورك المتنامي

تكاثرت شخصياتُك فينا

واشتقنا غيابك

صرت أيقونة العناصر المضمحلّة

وحين ذهابك الأخير

ذاتَ التفتِّ مودّعة

صعقني أن التوحّد بالتلاشي الإلهيّ

اكتمل في عينيك

وأيقنتُ أننا سنعلّق في بيتنا

أيقونة جديدة". (القصور المائية ص 91).

أسقط منصور وجه الحبيبة على العالم الملتهب عساه يعلل النّفس بانبلاج فجر جديد لبلاد متعبة.

خرجت المرأة من عالم الأسطورة لتحقق وجودها في زمن الصراخ ، فهي إلهة الحرب:

" المرأة جاءت

وحشيٌّ هذا البوح

الصّارخ في عينيك

يتألّق فوق منازلنا

كالقنبلة الضوئيّة

ويكون حضورك في الصاروخ

وفي إيقاع مدافعنا الليلية..." (أسافر وحدي ملكًا ص 117).

تبقى المحطة الأنثويّة الرموزيّة الأخيرة وهي المرأة / الجندي المجهول:

" إنتي اللي انزويتي حتى أنا انطلقت

إنتي اللي قعدتي بالعتم حتى كون انا بالوهج" . (القصور المائية ص 100).

أمام حرية الحبّ، انطلق شاعرنا باحثًا عن ذاته، وهذا هو شعوره عندما يكون في حالة سلام داخليّ ، فتنطلق امرأته إلى الطبيعة لتصبح راعية في رحاب الحرية:

" سوقي القطيع إلى المراعي

وامضي إلى خضر البقاع

ملأ الضحى وعينيك بالأطياف من

رقص الشّعاع

وتناثرت خصلات شعرك للنسيمات السّراع

سمراءُ

يا أنشودة الغابات

يا حُلمَ الراعي..." (قصائد مغناة ص 21).

تتحوّل المرأة في عالم الطبيعة الواسع إلى رمز مقدّس / جبل زيتونٍ تتقطّر من ترابه منمنمات العشق المقدسة:

" أيّها العاشق المصلوب على صدرها

شاسعة مسافات حزنك

متى ينتهي زمن الصلب؟" (القصور المائية ص 5).

أختم رحلتي في عالم الأنثى عند الشاعر مع المرأة / الأرض ، هي الأم في البداية، والأرض في النهاية، رحلة الحياة تبدأ من رحم أنثويّ بالفعل، وتنتهي برحم ترابيّ بالمادة. فالمراة في النهاية هي الحلول المطلق :

" أمّ الصياد، أمّ العصافير... جميعكم أبنائي .... فأنا المصدر والسّفر والعودة " . (القصور المائيّة ص 5).

هي فيروز عالمه الأوّل والأخير :

" كلما فكّرت بهاك البنت اللي كان اسمها نهاد حداد

وصارت فيروز العظيمه" . ( القصور المائية ص 48).

بعد جولتي الأنثويّة في عالم الشّعر، عرّجت على مسرح الأخوين لأحدّد صفةً لكلّ امرأة بطلة في مسرحياتهما .

موسم العز: نجلا حلوة القرية

حكاية الإسوارة: سر إسوارة عليا

رحيل الآلهة: البعلبكية الصامدة

عودة العسكر: نجلا الخائفة على سالم

جسر القمر: صبية الكنز

الليل والقنديل: منتورة حارسة خزنة القرية

بياع  الخواتم: ريما المنزعجة من كذب خالها المختار

دواليب الهوا: حلا وعالم الطفولة

فخر الدين: عطر الليل شريكة الصوت والسّيف.

هالة والملك : هالة والوجوه الثابتة.

الشخص : البنت البياعة وعبث البحث عن حل من جهة السلطة

جبال الصوّان: غربة وعد الناس وعرسها إلى الموت

سهرة الحب: وردة عين الصوّانة

يعيش يعيش: هيفا ابنة الشعب البسيطة

صحّ النوم: قرنفل المنقذة

زنوبيا: حاملة تراث النساء

ناس من ورق: ماريا السعيدة

ناطورة المفاتيح: زاد الخير ناطورة المفاتيح

المحطة: وردة ورحلة الانتظار

لولو: لولو السويعاتية

ميس الريم: زيّون وسيارتها المعطلة

بترا: بترا رمز التضحية

الربيع السابع: أسما المرأة الطموح

 

عالم المرأة في ادب الرحابنة متحوّل، يختال بين الشعر والمسرح والموسيقى، زينته حنجرة ذهبية حملت لبنان صوب العالميّة، وعلى الرغم من وصول الفكر الرحباني إلى أصقاع واسعة من العالم، بقي ارتباط الأخوين مطلقًا بأرض لبنان وإرثه الشعبيّ.

أحببت أن أختم مداخلتي بإلقاء الضوء على الموروث الشعبي عند منصور الشاعر:

" يقول في قصيدة حفافي البرد:

" رابي أنا بهالجرد

رابي بحفافي البرد

بجبال خلف جبال

ما بيقطعا الخيّال

وما فيه حدا بيقطع فيا

إلا نحن والصوت والموّال

وشي كم رفّ حجال...." . ( بحار الشتي ص 52)

" الفنّ أكبر من الحبّ" ، بحسب قول عاصي الرحباني، وهو مدخل إلى الحرية، والمطلق، والعالم الآخر، والشرارة الأولى هي الإرث الزجليّ الموروث عن الجدة.

ومن مظاهر الأدب الشعبيّ تكرار المفردات المتعلّقة بالقرية اللبنانية: " الديب- الكرم- القصب- الموال- الرعيان – الخوابي..... ".

وتبقى المسافة بين القرية والمدينة علاقة انصهار وذوبان من خلال فعل الحب/ المرأة:

" وقوليلها تشتّي

ببيروت الدّني

جايي لعندك

من سفر ميّة سني

مخربط براسي الوقت

مدري شو بني

قومي اشلحي راسك ع صدري

واحزني

منّش مطوّل

كلّها ساعة زمان

وما بقى تحرز

إخت إختك يا دني..." (بحار الشتي ص 75)

لن أطيل الكلام عن الأدب الشعبيّ في أعمال منصور فهو موضوع بحث جديد أتمنى ان يسبر أغواره عاشقٌ رحبانيّ بامتياز.

في الختام أشكر الحركة الثقافية في أنطلياس على تنظيم هذه الندوة، وإحياء ذكرى غياب الكبير منصورالذي صادف أمس، من خلال الكلمة والحضور، كذلك أشكر الدكتور جورج طراد  (وج الخير)، والدكتورة ربى سابا (زنبقة الكلام)، والدكتور الياس صالح (المعلّم الأوّل) ، والحضور الكريم.

                                                                      الله معكن