الجلسة الافتتاحية

كلمة أمين عام الحركة الثقافية – انطلياس الدكتور أنطوان سيف

 

          أيُّها المؤتمرون الكرام،

        أيُّها اللبنانيون واللبنانيات،

        مؤتمرنا اليوم، بادرت الحركة الثقافية – انطلياس، بالتشارك مع مؤسسة فريدريش ايبرت، بالإعداد له على مدى الشهور القليلة الماضية، استجابةً لتحديات متداخلة ومتراكمة باتت ترقى إلى مستوى الأخطار الوجودية على الدولة والمجتمع والكيان، ما استدعى ضرورة استنفار قوانا الوطنية، على تنوُّعها وتباعدها، موحّدةً، لمواجهتها بوعيٍ نبلوِره بالحوار العقلاني الحر والمسؤول الذي يقدّم مؤتمرنا نموذجاً راقياً عنه، وبالدعوة الملحَّة أيضاً إلى تآزرٍ عمليٍّ وطني، واسعٍ وجامع، يعقبه بالمباشرة الفوريَّة لوضع حدٍّ لتداعيات التلاشي والترهُّل والشلل في  مؤسَّساتنا العامة على وجه الخصوص.

        إنه حوار وطني للتبصُّر في أحوالنا، ينطلق من طرح مطالعاتٍ لشخصيات فكرية لبنانية كفوءة، رؤاها المعمَّقة هي حصيلة فكرٍ حصيف، وخبرةٍ مديدة في مجالها، والتزامٍ أوَّليٍّ لديها بالعام من شؤوننا ومصالحنا.إنَّ ضروراتٍ تنظيميةً اقتضت حصرَ المخاطر المحدقة بدولتنا اللبنانية راهناً ضمن أربعة محاور، هي: المؤسسات الدستورية والإدارة العامة – والأمن الوطني الداخلي والوافد -  والاقتصاد الوطني – والحياة الاجتماعية. وهذه، على أهميِّتها وأولويَّتها، تستبقي مع ذلك خارجَ نقاشات المؤتمر مخاطرَ أخرى تقتضي، هي أيَضًا، معالجةً لا تحتمل التأجيل في مجالات التربية والتعليم، وفي القضايا المعيشية الملحَّة والمطالب النقابية المجمَّدة، وفي علاقات لبنان الخارجية وعلاقة بعض الدول بمشكلاته الطارئة، وفي واقع مغتربيه المنتشرين في العالم وتفاقُم هجرتهم منه، وذلك – للمفارقة - بمقابل تحوّلُ أراضيه الضيِّقة إلى موضوع هجرة مكثّفة تتجاوز قدراته وإمكاناته الاقتصادية الذاتية، والاجتماعية الديمغرافية على الخصوص. الجيوسياسة اللبنانية جعلت وطننا غداة استقلاله منذ سبعة عقود بتماسٍ، من جهة، مع محيطٍ عدواني إسرائيلي استولى على أرض فلسطين ، ومن جهة أخرى، في السنوات القليلة السالفة، مع وقائع عربية متفجرة عانى صعوبة التوفيق بين النأي عن تردداتها السلبية، والتزامه بالمقابل بما تقتضيه الاخوَّة العربية وروحُ التعاطف الانساني من التزامات ينوء فعلاً تحت أثقالها!   

        ولئن كان مؤتمرنا، بمسوّغاته المختلفة وببعض وجوهه، هو أيضاً إنذارٌ ونداءٌ بل صرخةٌ لا تخلو من الاستغاثة المضمَرة، أو الملمَّح إليها غالباً بوجلٍ وخفرٍ لا تُسمع أصداؤه وفعاليّته كفايةً في الأروقة العربية والدولية، فإن هذه المخاطر والصعوبات التي نعانيها لا تحبط عزيمتَنا وارادتَنا وآمالَنا بتجاوزها. نمتلك، مع ذلك، أرصدةً وطنية تبدِّد الكثيرَ من التشاؤم المستشري والأوهام المبالغة حول هذه المخاطر:

فالوضع اللبناني الداخلي الصامد بتماسكه راهناً يبدو كمفارقة لونية ضدّية على الوقائع العربية القاتمة المحيطة؛ وخلوَّ سدّة الرئاسة، على خطورة استطالة استمراره، يندرج، بوجهه الأبرز ولكن غير الأوحد، في إطار أزمة دستورية وقواعدها المرعية كما في غالبية الدول العريقة الديمقراطية؛ وما من معارضة، عنيفة أقلّه، لنظامنا البرلماني بوجهه الطائفية وأيضاً بركائزه العلمانية عموماً غير الدينية وغير العسكرية؛ ونظام الحريات العامة الذي اشتُهر به لبنان دوماً في محيطه العربي وفي الشرق عموماً، في الاعلام والتعليم والمعتقدات والاحزاب السياسية والهيئات المدنية، لا يزال قيد الممارسة في اطار الوقع المتفجر والأزمات الداخلية والخارجية على السواء! وتراث الجمهورية اللبنانية، وهي أولى الجمهوريات في الشرق وأولى دوله المستقلة، ما زال ساري المفعول، على الرغم من الفساد والتسيُّب والشلل الراهن في مؤسساته العامة، السياسية والادارية... والمجتمع المدني في لبنان العلماني التوجهات عموماً، لا يزال يمارس دوره العلني في مساءلة السلطة السياسية بالوسائل السلمية المختلفة، وبضغوطه الديمقراطية على مراكز القرار الرسمية وسواها، ما يعني مشاركته النسبية في صوغ القرارات العامة...كل ذلك ضمن مطلبه العلني الأساسي الذي لم يتوقف أو يخبُ منذ عقود وفي مختلف الظروف، بتغيير النظام السياسي اللبناني الطوائفي، والنظام الانتخابي الطائفي الأكثري، بالوسائل السلمية الديمقراطية...

        هذه الأرصدة، على صغرها النسبي، وكونِها آناً ضحيَّةَ المناخ الأبوكاليبسي العربي العام، وفاضحةً أيضاً لتخلُّف قواه واستبدادها وهمجيَّتها، ينبغي عدمُ إغفالها عن وعينا الوطني وعدمُ إساءةِ قدْرها، الفاعلِ الضمني المستتر لتماسكنا وأمننا. وإنَّ الطبقة السياسية الممارِسة والمتوارثة للسلطة في لبنان، بقواها وأحزابها مجتمعةً، ، هي المسؤولة الأولى عن تحمُّل أوزار تقلُّص هذه الأرصدة الوطنية وتهميش دورها في حياتنا العامة، هذه الارصدة التي ينبغي أن تكون بالتالي مركزَ استقطاب كل القوى الوطنية اللبنانية، السياسية والمدنية،  الملتزمة بالديمقراطيةِ فكراً وممارسةً وتوجُّهاً عاماً.

إنَّ للبنانيين، بتنوُّعهم واختلاف تقييماتهم لشأنهم العام، شأنِهم المشترك، ما يقولونه في هذا المؤتمر عن تطلُّعاتهم، لبعضهم البعض، وعن بعضهم البعض، فالسجالية العقلانية إيجابية ضرورية لتعبئة الطاقات المتنوِّعة وتوحيد قواعد سلوكها ومراميها: حوار كهذا الذي نرومه ونأمله هو أحد أسرار الديمقراطية المثمرة وروحها.

وأخيراً، ترحيب بالجميع، وشكر خاص للذين لولاهم لما كان لقاؤنا في هذا اليوم البهيّ:  مؤسسة فريدريش ايبرت، ، لزملائي في الحركة الثقافية – انطلياس وموظفيها، منوهاً بجهود الزميلة الدكتورة تراز الدويهي حاتم، أمينة المؤتمر، ولأهل الاعلام ومؤسساتهم الكريمة، ولشريكتنا في تنظيم المؤتمر ودعمه مالياً مؤسسة فريدريش إيبرت بشخص مديرها الاقليمي في بيروت الصديق أخيم فوكت.

                                                               

                                                                        د. أنطوان سيف

                                                                          الأمين العام

                                                                  للحركة الثقافية - أنطلياس