امين زيدان

براعم "رجل لكلّ الفصول"

بقلم انطوان سيف

        المعادلة بين الإرادة والأمل لا تموّه صورتها في مرآة معادلة الإيمان والرجاء إذ ليستا في آخر المطاف غير مسعى مغتبط بجمع لغة الأرضيين بلغة السماويين، عبّر عنه بشهقةٍ "تجعل الهواء بحجم رئتيه": "يا سعدَ قلبٍ يجيد اللغتين"! ذاك انه حينما اعتصر الحياة الثرة، المرّة والحلوة بوحدةٍ جدلية من التعاقب المتواطئ، اختار مزاولة المفارقات التي ينتشلها الحكماء، الملسوعين بألف الشعر، من ساحات التضادّ والتلاغي التي يعاقرها الوعي الساذج المعمّم بالكسل وفقدان اللمعة، الى مركز نبض الحياة المشدودة بين بعدي الذاكرة والخيال، ما غاب وما نسعى للقياه بفرح او لابتداعه. "براعم خريف" استنبهت كما "الانتظار خلق المحطة وشوق السفر جاب التران"، كما قال الرحابنة، تربأ بالسنوات وعدّها التي يجعلها بعضهم مرادفة للعمر، تجد في الحبّ رحيقاً والصداقة تجديداً للدروب التي استبعدت من خطى عابريها كل وحشةٍ. فلئن كانت "الاهواء تصلح لأبواب النعيم كما تصلح لأبواب الجحيم... فوحدها الإرادة المقواة بساعد العزيمة، المصفّاة بنار التجربة، تنير، تختار، تقتلع، تغرس باليد عينها، جديد خير" (ص 37)!

لم يقوَ أمين زيدان، وان بدا انه لم يسعَ، على تجاوز انحرافه المهنيّ كمعلم اصيل برى التعليم جسده وصقل فيه الروح. كتابه درس لا نهائي الآفاق يذكّر من كسبوا نعمة من كانوا من تلامذته يوماً، واولئك الذي لم تمنّ عليهم الحظوظ الطيبة به! لكأنه مباراة لتقديم عرضِ أخاذ بلغة لاعبها واستنطقها شذب منها كل رطانة، اعتصرها الى الحد الأقصى المتشظي حداً اقصى من اللمع كأن لا سابق له فلم يبق له سوى ذاته الوحيدة لينافسها فيها. صدق سعيد عقل عندما لفتنا الى هذه الندرة الأدبية الأسلوبية التي تنحصر في ثقافتنا "بالامينين": نخله وزيدان. أديوان شعر هو؟ فلسفة؟ مواعظ لا تحديد لموضوعاتها التي حينما ابتغى تحديدها بعناوين لأبواب ضغطها الى ثلاثة فحسب، ارتكب بها مفارقة تشظيها بكل الاتجاهات: غرس الألوهة، بابها الأول اضاف الغرس الى الألوهة مهمة اضافية الى آفاقها الماروائية فيها من الشرك (هو الله شائنا ان نكون ليكون" ص 18) ما يشفع به قوله: "وحدها المحبة مرادف كلمة الله" (ص 23) كما الذين الايمان عندهم، وهم قلة نادرة، يشطح بهم خارج كل مألوف تخشب على الألسنة صلوات لها أصداء اصوات لا "براعم" حياة جديدة واعدة فيها؟ أحكمة، وحكم وأمثال ينضمّ بها الى تقاليد كبار كسقراط او ما نسب اليه، وباسكال، ولاروشفوكو، ونيتشه... وكل اصحاب "الأفوريسمات"؟ التي سماها العرب بالاقوال المأثورة، او جوامع الكلم؟ ام هي بصفحاتها المنضغطة في 77 صفحة فقط لم يحاول ان يجعل عددها يصل الا الى الحدود الدنيا لسنوات عمره! "شذرات"، كشذرات هيراقليطس الذي هو سيّد اول من اسياد النثر الفني لا في الأدب اليوناني القديم، بل على المستوى الأدبي العالمي؟ ام هو ما استصفي من سيرة الحياة شأن ما سلم من فلسفة برمنيدس وهو كناية عن بضعة أبيات من قصيدة غدت محور تاريخ الفلسفة اليونانية؟

فلنقرأ فقراته، او حكمه، التي وضبها عن عناوين صغرى هي على العموم كلمة واحدة يتيمة على السطر، او كلمتان حيناً، فلنقرأها اذا شئنا ابتهالات، صلوات ناسك متعبّد، شاعر يعلّم الفلسفة والثيولوجيا، يصل صوته الخافت الينا "بشق الروح" ليجد له في "الجموع" شبيهاً، كما لو انه على قمة جبل زيتون، اذ لا يدرك الشبيه الا الشبيه. ولكن ماذا لو بعثرنا له هذه العناوين، وأعدنا ترتيبها من جديد، على هوانا؟ سنكون امام غنىً جديد: ثلاثية الأبواب في كتابه هي صيغة "زيدانية" لثلاثية الخير والحق والجمال، صيغة حديثة تقرأ الحضارة تراكماً واكمالاً أكثر مما هي قطع والغاءً. وإلاّ كيف نفسّر هذا الايقاظ لوفر من مفردات العربية الذي رفدها ثراءً وبهاءً كالخبيئات (ص42) والذريرات (47) والأخيّات، والحنايات (67) والاعطيات، والقمات (29)...؟

استاذي أمين،

هنيئاً لكل هذه البراعم التي استنبتها بفكرك النيّر وعواطفك المشدودة دوماً ومن غير انقطاع بين الألم والحزن "كجرح على مشارف السماء" وفرح الحب المحيي والصداقة الزاخرة بالأمل وبالرجاء لقد رأيت في الصليب طريقك الى ذيّاك البقاء، حيث لم تذكر جرحك الكبير بسوء أقل من سطر واحد، كتابك بيرقك الذي لن يخبو. قلت فيه وفيك: "ايموت من يحيا في خالد أثر"؟ هذا الفيض عندك لن تبخل به على احبائك الكثر، المعروفين والمجهولين لحينه.

انطوان سيف

انطلياس في 9/3/2014

---------------------------------------------------------

      أمين زيدان وأعجوبة الخلق

جوزف أبي ضاهر

كلمة بـ كتاب أمين زيدان:

«براعم خريف» الحركة الثقافيّة ـ أنطلياس

الأحد 9 شباط 2014

كان الدَهَب عَ الأرض مدري. صابيع الهوا ما قدرت تخبّي شهوتا.

ـ دَهَب؟

يا لون بيسرق من العينين البريق، وما بيكتفي.

بلّشو الصَبيع يحيّكو مفارش لـَ الأرض.

يرسمو صور، ممرق حدّ ممرق... ومتل ولد حردان من إمّو يخربطو كل شي بْـ لحظه، وما حدا منتبه.

بهـ اللحظه بـ الذّات، الما كانت ع بال، مرق شاعر. شاف الوقت واقفه ساعتو. تلفّت حواليه: الدَهَب قصايد، وصبيع الهوا ما خلّو حدًا يقرا؟

اتطلّع لـ فوق لَمَح شفّتين...

متل شفّتين.

قرَّب.

قرَّب أكتر، ومش مصدّق

ـ شفّتين؟

يا الله

هنّي الْـ كانو أوّل العمر... وكيف!

كيف إجو من أوّل العمر لـ آخر العمر؟

في مسافة صيف وشتي وربيع... وفتّحو بغير وقتن؟

يتمجّد إسمك.

 

قرّب منّن أكتر. ما قدر خبّى لهفتو.

صار العاشق الأزلي الْـ بيعرف يعدّ كم في زيح بـ الشفّتين، وبين كلّ زيح وزيح يتنهّد، يغلّط، تَ يرجع يعدّ.

يمكن قصد،

ما العمر كلّو بلّش بـ الشفّتين، وفتّح زهر. صار الزهر تفّاح المعرفه.

بيستحق هـ التفّاح الـ ما بيخاف يدوق التجربه.

الشاعر بيدوق.

 بيروح لـَ الأبعد، لـَ الحدود العاليه، وفجأة... بيتذكّر

مرّه سمع مَرَا عم تقول لـ إبنها:

«يابني. اتطلّع لـ فوق قدّ ما بدّك، بـ الشمس، بـ القمر، بـ النجوم، بـ الغيم، بـ كلّ السما، بسّ...

بسّ من وقت لـ وقت التفت عَ التراب تَ تقشع وجّك».

ردّ عينيه لـ الأرض

ـ ما نسيت وجّي.

العمر خَرْبَط روزنامتو .

أنا شو ذنبي إذا بلّشو الشفّتين يفتّحو وراقن، ورقه بعد ورقه.

القلم الأخضر هوّي الـ قال لـَ صبيعي: زهّرو

... وزَهَّرو،

بـ غير وقتن فتّحو؟

بـ غير وقتن زَهَّرو؟.. وشو هم.

الشعرا مش صحاب هنّي والوقت، ولا صحاب هنّي والعمر.

بين مبارح وبكره رفّة عين، ومين بيعرف، يمكن كتاب مبارح ينكتب بكره، ويولد الربيع من شفّتين بـ غصن كانو افتكروه بلّش ييبس.

ما تاري هوّي كان جوّات الحلم، عم يتكوّن من المعرفه والتجربه وفلسفة الحياة، بس مغمّض عينيه لـ اللحظه الـ بدّو يطلّ فيا علامه بتختلف عن كلّ علامات الأزمنه.

ما تصدّقو الوقت.

عقل الشاعر مرّات كتيري بيفوت ع قلبو، وبيحكو سوا فرد لغه. بيصيرو أقرب للخالق. بيشاركوه أعجوبة الخلق.

يتمجّد الخالق.

***

أمين زيدان الشاعر الْـ عرفتو من أكتر من ربيع، وبـ أكتر من ربيع، وأخد شعري ع غير لغتو. ولا مرّه حسّيت بـ كلمه من كلامو لفحها هوا الخريف.

كتابو الأخير أبعد من شطّ الأزمنه. ما بيتحدّد بْـ وقت، ولا بينحسب ع مرحله.

كتابو باب مفتوح ع حقول الجمال والخير والحق.

هـ الثالوث تجسّد تَ يكون: الحب الكامل، النور الْـ بيمحي عتمة البشاعات... والكاس الملان المرفوع لـ فوق، ع اسم الحياة الْـ غلبت بـ الروح موت الجسد.

كتابو بيدر.

 

البيدر سنابل قمح. القمح رغيف مقمّر... ويا حظ اللي انعطالو يدوقو.

بعدو... ما رح يعرف الجوع. وما رح يعرف الشَبَع.

صحيح بيدرو تكوّم بعدما دهّبتو شمس أيلول. بس ما وصل لـَ الخريف ولا وصل الخريف ع كتابو.

يمكن لأنو مسيطر ع الوقت، بيأخّرو، بيغيّرو، وبـ شحطة قلم، بيربط زيح المدى بـ الزيح بين الضفّتين تَ تصير السما أقرب.

خريف الكلام، غير خريف الجسد.

الكلمه ما بتتأثر بـ الزمن، ولو خلقت بـ قلبو.

وْجودا جوّاتو تَ تردّلو النبض.

 

أمين زيدان الشاعر الـ عجن خبز المعرفه بـ الروحانيه أدرى من غيرو بـ الإيمان، باللاهوت، وبـ الحبّ المطرّز دوايرو بـ لهفة الساكن بـ القصايد... وعم ينقّي العصافير الـ بيسمحلن يغطّو ع ايديه.

إيديه أوسع من مساحة الورق الأبيض.

أوسع من مساحة اللي انكتب.

إيديه دقّو ع الباب العالي فوق،

من زمان،

ولـَ اليوم سامع صداهن جوّاتي، وجوّات غيري الْـ عرفو منّو الحقيقه.

الحقيقه الما بتتخبّى إلا عن المغمضين عقولن وقلوبن.

العينين عصا بتدّلن عن الطريق.

بس البينقّو الطريق هنّي تنين: العقل والقلب،

إذا مشيو سوا بيوصل الماشي معن لـَ الباب اللي اندقّ، فوق.

... ويمكن

يمكن...

دخلكن،

ليش نحنا ملبّكين إذا تفتيحة الزهر انحسبت ع الربيع، أو انحسبت ع الخريف، أو ع الباقي من الايام؟

نحنا بدّنا الزهر، ومن أوّل تكوينو بُرعم بـ «عْرس الألوهه». لـ تفتيحتو البكر «زَهْر المعرفه».

 

اندهو المعازيم ع الفرح

الكتاب صار بين إيدينا، ومش كلّ يوم بيصرلنا نفرح متل هـ الفرح، ومع شاعر متل هَـ الشاعر الـ «معلّم».

صِفَةْ الـ «معلّم» بتنعطى لـ المكرّسين بـ الحياة... ولـ الحياة.

أمين زيدان...

إنت الـ معلّم.

 -----------------------------------------------

مساكب الفضائل في براعم خريف أمين زيدان

 

 

 

د. ناتالي الخوري غريب



براعمُ خريف، هي أزاهير معرفة وإيمان، تفتّحت في ضواحي محجّة الحكمة، تعطّرت ببخور التسليم، ومن غرس الألوهة نبتت، وفي مساكب الفضائل سكنت وكبرت. والغارس، هو الأمين، هذا الوكيل على ماء السماء التي منها استقى، فسقى بذور إيمانه لتشعّ جنيَ عمرٍ في مثلّث الله-الإنسان-الوجود. كتاب يضمّ ذخائر حكم ومنائر تجنّبك الوقوعَ في فخّ العدم، على أن تقرأ ببصرك، وتستشعر ببصيرتك، وتتأمّل باختبارك الباطني، ما يقي السقطات في هوّة الخيبات.

براعم خريف، فيضُ من جادت قريحته ببصائر العقل، وقد صُبّت في بوح تأنّقَّ، فتألّقَ الفكر على أنغامه، ترجمه وحيٌ من السماء، إلى حُدّاث الأناجيل آلف، لنحّات جمال إلى روّاد المتاحف في مرابع القداسة آنس. براعم خريف أقرب إلى نقشٍ أيقونات رُصّعت هالاتها بذهب الايمان الخالص ولوّنت قسماتُها بلمسات المتبرّك الخاشع.
مغزل الجمال
أمين زيدان، صعوبة الصعوبة، لا يُنال بسهل الفهم أو فتح المعاجم، او استحضار ما نام من التراث في كنوز التاريخ، بل يُفهم بفكفكة قطبٍ مطعّمة بجواهر خرُّد وخُلّد، اشتغلها للغة من أجل تدليلها وتغنيجها، إذ يحيك لها في محترفات الجمال على نولة مغزله، وشاحًا أشغولته تآخ بين عقل وإيمان، وسحر البيان الآتي من أبجديّة اللاهوت.
هو الأمين الذي نذر نفسه للغة، قدّم إليها حبّه وعمره، تدريسًا وتدريبًا وغوصًا وترجمة وشعرًا ونثرًا، فقدّمت إليه طاعتها، ووهبته أحرفها بنيّات وأخيّات أبكارًا، عرف كيف يصونهنّ مؤنّثات سالمات من ضروب العقم التكرار، ويحفظهنّ عبر انتقاء لوصفهنّ بما يتناسب ومقامهن تقديمًا وتأخيرًا، في جديد حلي وتوشيات، فجاءت عباراته صلوات على إيقاع كرّ سبحات وتسبيحات، تمجّد الله كلّ حين، وتكشف القناع عن وجه إنسان تزّيف فزيّف كل ما حوله ..علّه يعود إلى سابق عهد له مع الله، صورةً تعكس من على مثاله صُوِّر...
ما الجديد في حكم الأمين، ونحن نعلم، كما قال الجاحظ:المعاني مطروحة على الطرقات يعرفها العربي والأعجمي، والحضري والبدوي، والقروي والمدني وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير... هي الصنعة الأدبية، واحتراف اللعبة اللغوية، ما جعل الأمينَ رائد مدرسة أدبيّة في الكتابة، صوغًا ونحتًا عمارات من مجيدات الكلم ... وبما أنّ الحكمةَ هي أعلى مراتبُ العقل، عرف كيف يشيّد لها إمارة بنيانُها من بيان عقل وقلب وإيمان، ومشيّدها، سيّدها، شاعر، والشاعر لا تُعصى أوامره.
يتفرّد الأديب أمين زيدان بأسلوب خاص في الكتابة، إن من حيث انتقاء الكلمات وتركيب جمله، وأسلوب التقديم والتأخير الذي يعتمده، بطريقة متفرّدة، لم يقع عليه من قبله او بعده اديب، وأن كنا نحاول تقليدَه، لكننا نبقى تلك النُسخة المزورة وشرفها أنها تحاول ان تحاكي الاصل: ففي التقديم والتاخير: كيف امحاء الزمن في الخاطر يكون، وكيف الذهولُ عن الوجود يصير؟. وصيغ التنكير مع تقديم المنعوت على الى النعت: عديد وزنات-شفيف غيم-أزليّ موت-أبديّ حياة، شيّق موت. ويعمد التصغير، من أجل تغنيج وتدليل:ذريرات- فويق-وُريدة-زهيرة-نُسيمة-بُعيد-ذريّات.. وجمع المؤنث السالم: نيّرات، قسمات، عاتيات الريح-قمّات السماء-أخيّات-بنيّات..
الحكمة والبعد الأخلاقي
وبذلك، تندرج براعمه ضمن فئتين: الحكمة والتأمّل الفلسفي.
التأمل الفلسفي تناول الالهيات في البعد اللاهوتي المسيحي. في حين أنّ المعرفيات، انارت على البصيرة والوجود والزمن. أما الحكمة فقد تناولت البعد الأخلاقي العملي بإضاءات روحية.
في الإلهيات، وهي مقولات من باب التأمّل اللاهوتي، تناول الأديب أكثر من موضوع، مثلا، سرّ القربان، بكونه الخمير الذي يقوم بفعله السحري في تحويل الإنسان من إنسانيته إلى الألوهية الكامنةِ فيه.
كذلك، في الباب عينه، كان تأملّ الشاعر في تجليّات الألوهة الكامنة في كلّ جمال، في إشراقة شمس وبدء نهار، او نجوم ليل، وفي الطبيعة، فهي إمّا ظاهرة، أو متوارية في طيّات كيان الإنسان، إلا أنّ رؤيتها، تحتّم المصالحة مع الذات، لأنّ الإنسان في تكوينه الماهوي من طينة إلهية، لكن مع المصالحة وإعمال العقل، تكون إضاءة الطريق في اكتشاف الذات، مهما كانت المسافات بين آدم العتيق وادم الجديد، إلا أنّ ثمّة مهمة على عاتق آدم الجديد، فيتجوهر بما هو من صميم كيانه كالماسة.
ففي هذا الباب، أراد امين زيدان أن يجعل الإنسان عقلًا يشدّ به السعي الى المعرفة المتولّدة والمولّدة فيه كلَّ كشف وإدراك وموضعَ قدم في كل سماء. إذ يقول:دور العقل: ينير الدرب إلى السماء أو ينير سلالم الجحيم،21. ثمّ جعله يستنير باختباره الإيماني الباطن مدارك المعارف العقلية القاصرة فيعلن ايمانه بالسماء، ويجد الطريق إليها بتلازمها مع المحبّةكما قوله: أيُّهما مَوْئل الحقيقة؟عقل نيّر أم قلب محبّ؟ وكُشف لي: مُوئلها عبقرية المحبة،24. وبما أنّه يؤمن بدور العقل :جعل الحواس فاقدة القيمة ان لم تمر بالعقل، 25.
لقد بنى الأمين حكمه على ثقافة المساءلة والتيقّظ ومحاسبة النفس والوقوف في حضرة الضمير، عبر أسلوب استفهام في معظمه، يحرّك لدى القارئ حسّ المعرفة وأبعاد الموقف المأزوم، ومن ثمّ يصوغ أجوبته من أجل بناء مصالحة الإنسان مع ربّه، والوثوق بعظيم رحمته، حبّا وليس خوفًا. محاولا أن يوقظ فيه تلك الرواسب النيّرة، فتكون قراءةُ شذراته، مشاركةً في قيم الروح. وكلّ ذلك، من دون أن تجد تعاليًا أو فوقيّة من صاحب خبرة، بل تجدها حوارًا من أخ يدلي بنصائحه إلى أخيّ له في الإنسانية، ليرسم معه طريق خلاص يسلكانها معًا.
كذلك، يتبصّر الأديب تبصّر الحكيم، الفرق بين الناس في العالمين، الأرضي، وما بعد الموت، مع يقينه بتعانق الأيدي، وإيمانٍ بما بعد الموت، بانعدام الجوع والعطش، لأّن الاله السرمدي الخالد، لم يجعلهم يحتاجون إلى ذلك. رافعًا الانسان إلى مرتبة أنيس لله:ضاق الله بوحدته في سمائه فكون الانسان محاورًا يأنس إليه الله مواليًا أم معاديًا. ص وهذا الأنيس لا طريق له إلى قلب الله إلا بالحبّ، 22. فما حاجتك بعد إلى سلّم يعقوب او إلى مصعد تيريز؟، 22.
مساكب الفضائل
في الباب الثاني، مساكب الفضائل، من القضايا التي يتناولها الأديب قضّية الخطأ والصواب وفي أنّ تحديدهما يكمنان في مقاربة سليم العقول لجواهر ما يُعرضُ عليها-28. متنبّهًا ومنبّهًا إلى ضرورة البعد عن الغضب والعنصرية والانانية، فالآخر حتميّة لا اكتمالَ لحياة من دونه، ولا سعادة على حسابه، ففي محبّته محبّة الله-37-متوقّفًا أيضًا عند دور المربّي، بحيث لا يمكن أن نفصل أمين زيدان الشاعر والأديب والمربي: حذارِك صبَ النفوس في قوالب نفسك صدور المعلمين هي الآمنة الجسور، داعيًا الى خلع اقنعة النفوس لان الروحَ جوهر ما غرس الرب في الانفس من ذريرات روحه.
أمّا الباب الثالث من براعمه وقد عنونها: أزاهر المعرفة، يشدّد فيه على أهمية البصيرة في اختراق الوجدان حيًّا كان ام ميتًا، وفي تجديد فصول أعوام الانسان غلالة ضياء زوّادة خلود. إذ تكمن أهمية البصيرة في أن أرسل الله الشاعر سقّاءً يدور على الحواسّ. كذلك يشدّد الأمين على أنّ اطراد الحياة يتم باحترام الجذور، ف الاجداد معابر الوجود الى مستقر الخلود.
وفي الختام، لا بدّ لنا من أن نذكر دورَه النهضوي التجديدي في لبنان، من خلال كتاباته وترجماته...لأنّ: معراج الثقافة يتدرّج على مناكب المبدعين، واسمح لي ايها الاديب الامين أن أجيب عن سؤال لك طرحته في معرض كتابك بسؤال آخر: أيموت من يحيا في خالد أثر؟ أيموتُ من يقتات من زوّادة خلود؟!
أيموت من يشفي اللغةَ من عقمها فيولّدَ من خريفها براعم؟!.. فهَلِّل خريفًا منك الكلمات في سيرورة توالد وصيرورة، لا شابت ولا شاخت، هلّل خريفًا ينثر ربيعًا بنضج قول لك لعديد قومٍ يبوح على الملأ ويفوح. هلّل خريفًا، واملأ جرارًا، بعطر حكمتك نزهو ونغتسل... هلّلي براعم تتفتّق على أبواب من ضلّ وأضلّ، ليستدلّ ويدلّ غيره إلى مراتع الألوهة..

كلمة الدكتورة ناتالي الخوري غريب في ندوة حول كتاب براعم خريف، للأديب أمين زيدان، الصادر عن دار سائر المشرق، الحركة الثقافيّة-إنطلياس. والكتاب مجموعة من الخواطر- الومضات، بوّبها المؤلف في ثلاثة فصول: الاوّل بعنوان غرس الألوهة، الثاني مساكب الفضائل، الثالث أزاهر المعرفة، وهي خواطر عجنت باللاهوت والفكر، بأسلوب أدبي متفرّد تميّز به أمين زيدان. وقد صُدِّر الكتاب بمقدّمة لسعيد عقل قدّم بها الأديب عام 1966