ندوة انطوان حكيم من متصرفية جبل لبنان الى دولة لبنان الكبير 1914-1920

كلمة الدكتور أنطوان ضومط

 

قد يتبادر الى الذهن ان مرضوع الكتاب" من متصرفية الجبل الى دولة لبنان الكبير 1914-1920" قد اشبع درسا وتمحيصا، وما الموجب لاعادة تكرار الحوادث والعناوين؟! انها سقطة المتسرعين باصدار الاحكام قبل التبحر بالكتاب منهجا ومضمونا. فالتأريخ لا يقتصر على المعلومات الشائعة وحدِها، انما ينبثق من ذات المؤرخ بمنهجه ونظرته الى الماضي. فمنهم من يدرس الحدث باحاديته وظروفه الضيقة، وآخرون يضيفون عليه ابعادا اقليمية محدودة، وفريق ثالث يصوغه ضمن الاطر كلها فيصير الحدث قائما بذاته تتمحور حوله كل المؤثرات، ويتصدرها جميعها، ويتفاعل معها فتتشارك جميعها في بلورة نظرة المؤرخ الى الماضي. وهي نظرة هادفة للاتعاظ وتجنب السقوط في الاخطاء. ويزعم البعض ان التاريخ يعيد نفسه، وهذا خطأ شائع. ففي التاريخ ثوابت؛ كالصراع بين الظلم والعدالة، والحرية والاضطهاد، والصراع بين المذاهب والاديان، والغنى والفقر. لذلك فالتاريخ لا يعيد نفسه انما يحدث اعادات لثوابته ولا يكرر احداثه ، فلكل حدث ظروفِه وزمانِه ومكانه، وهي بلا شك غير متطابقة.

على هذا، لن يقدم الباحث جديدا اذا اعتمد فقط على ما درس وقد يكون بعضه متلون بنظرات المؤرخين وانسياق بعضهم في تيارات سياسية محددة. فهو يعتمد عليها لتساعدَه في فهم اعمق لموضوعه الاساسي. ويحتل هنا النقد والدقة والتجرد، على ضوء الوثائق الجديدة، دورا مركزيا.

لن اطيل في تلاوين التأريخ، انما من يتصفح فقط لائحة المصادر والمراجع في نهاية كتاب الدكتور حكيم يستوقفه غناها ففيها اولا: الارشيف المستلة منه وثائق غير منشورة، ثانيا: قراءة متأنية لوثائق منشورة بالعربية والانكليزية والفرنسية، وثالثا: المذكرات والشهادات بالعربية والفرنسية، واخيرا كتب ومقالات بالعربية والفرنسية والانكليزية.

اذا كانت متصرفية جبل لبنان تعتبر مفصلا تاريخيا كتجربة رائدة في الحياة السياسية في المشرق العربي الذي كان ولايات ملحقة بالسلطنة العثمانية. فان التجربة اللبنانية الثانية تمثلت بقيام دولة لبنان الكبير عام 1920. وشابت المسارين الحدثين عثرات كثيرة بل عقبات تمحضت عنها ازمات مضنية.

فمنذ دخول الثمانيون الحرب الى جانب ألمانيا تسارعت وتيرة الاحداث في المتصرفية، وما عاد الاتراك يأبهون بمن يضمن نظامها الاساسي (البروتوكول) فخرقوه واعتبروه نابعا من قوانين عثمانية داخلية فقط. واحتلوا الجبل، وحكموه حكما دكتاتوريا مباشرا. وتركوا مجلس ادارة المتصرفية يعمل على الطريقة العثمانية. وانتجت مشاريع الحلفاء البريطانية والفرنسية والروسية الحربية حصارا بحريا على السواحل العثمانية لمنع وصول الامدادات الى جبهة السويس التي حشد فيها العثمانيون قوة كبيرة لتهديد قناة السويس بمحاولة للسيطرة عليها واخراج الانكليز منها. ونشطت حرب الغواصات الألمانية في المتوسط لتزيد في الاوضاع عقدا. فعانى اللبنانيون، لا سيما سكان الجبل، جراء صراعات الدول الكبرى حصارا بحريا، ووآزرهم العثمانيون بآخر بري بهدف القضاء على اللبنانيين على حد تعبير انور باشا. واجتاحت جحافل من الجراد لبنان لتزيد في بؤس اللبنانيين فعانوا مجاعة مرعبة.

في هذه الاثناء كان الحلفاء يتجاذبون مشاريع اقتسام السلطنة العثمانية؛ بين رغبات روسية بالحصول على البسفور والدردنيل والقسطنطينية، ومحادثات حسين مكماهون الهادفة لتحديد مصير العرب، الى اتفاقية سايكس بيكو، واتفاق سان جان دو موريين de Maurienneلحصول ايطاليا على اضاليا.

مكنت خسارة العثمانيين الحرب تطبيق الاتفاقات المعقودة بين الحلفاء. وكان لا بد من تحقيق ما جاء في التصريح البريطاني الى السبعة اي " ان الشعوب المضطهدة في هذه الاراضي – اي الاراضي السورية اللبنانية بما فيها المتصرفية- يجب ان تفوز بالحرية والاستقلال." انما الحكومة العربية في سوريا برئاسة الامير علي باشا الجزائري بسطت نفوذها على لبنان بما فيه المتصرفية واحدثت ارباكا داخليا لا سيما عند المسيحيين. انما دخول الجنرال أللمبي والامير فيصل الى دمشق ادى الى طرد الجزائريين والى اشكال مع الفرنسيين الذين كانوا يصرون على الحكومة الانكليزية لتنفيذ اتفاقية سايكس –بيكو. وشجعوا اللبنانيين في الوقت عينه للقبول بقيام دولة واحدة تضم بيروت وطرابلس والبقاع والمتصرفية.

ولطمأنة الرئيس ولسن وتخدير العرب المنفصلين عن العثمانيين اصدر الفرنسيون والانكليز تصريحا مشتركا مما جاء فيه:" لا تسعى الدولتان الى فرض اية مؤسسات على هؤلاء ...وهاجسهما تأمين انتظام العمل في الحكومات التي يختارونها بانفسهم."

لم ينته الصراع بين الاميرين فيصل المدعوم من الانكليز ومحمد سعيد الجزائري القريب من الفرنسيين، الراغبيْن بالفوز بعرش سوريا، الا باعتقال الانكليز للاخير ونفيه الى مصر. لتبدأ مرحلة جديدة من صراع  الكبار شكل مؤتمر الصلح مسرحا له والوفود اللبنانية ولجنة كينغ-كراين بعضا من مستلزماته.

حاول الفرنسيون التعاون مع فيصل اعتقادا منهم انه وحده يستطيع اقناع السوريين بقبول الانتداب الفرنسي، لأن التيار القومي كان يقف بشراسة ضد اي مشروع لا يحقق تقرير المصير الشعب السوري. وجهدوا لكسب ود المسلمين ادراكا منهم انها لعبة طواءف ومذاهب، فالعالم العربي كان ولماّ يزل غارقا في اشكالية صراع الطوائف، ونأمل ان يستيقظ يوما من هذا السبات المخيف.

ارسل مجلس ادارة المتصرفية ثلاثة وفدا الى مؤتمر الصلح طالبت مساعدة الفرنسيين بتوسيع الحدود والاستقلال، وقيام مجلس نيابي على النسبية. ونظم هذا المجلس مع الاكليروس الماروني وبمشاركة البلديات حملة حقيقية ضد هيمنة الامير فيصل على مجريات الامور السياسية التي كانت تشكل تهديدا حقيقيا لمطالب اللبنانيين. وعلى الرغم من النجاح الذي حققه الوفد الثاني ظل القلق مسيطرا على اللبنانيين بسب رفض السوريين مشروع دولة لبنان الكبير. وفي ربيع 1919 بلغ الخلاف الفرنسي الانكليزي ذروته، ومنعا لحصول الأسوأ حدّ الانكليز من دعمهم لفيصل، الذي وجد نفسه مضطرا لمفاوضة الفرنسيين. وحصل اتفاق فيصل كليمنصو. رد عليه المؤتمر السوري في 7آذار 1920 بقرارات نارية فاعلن باجماع اعضائه استقلال سوريا الطبيعية، ومراعاة اماني اللبنانيين الوطنية المتعلقة بلبنان بحدوده. اعتبر الانكيز والفرنسيون قراراته باطلة لأنهم هم من حرر الارض ووحدهم المخولون تقرير مصيرها. وتأكيدا على لا شرعية المؤتمر السوري رفض الجنرال غورو صحة نسب التمثيل في المؤتمر؛ 13 مندوبا لتمثيل مائتا ألف سني، ومندوب واحد لتمثيل مائة ألف شيعي، و3 مندوبين لتمثيل 15000مسيحي، ولم يتمثل لبنان باي مندوب. كما احتج مجلس ادارة المتصرفية والبطرييرك الياس الحويك والمغتربين اللبنانيين لدى مؤتمر الصلح على تدخل المؤتمر السوري بشؤون لبنان. ومع قلق اللبنانيين على مصيرهم ازاء ما ورد في مؤتمر الصلح لا سيما ما جاء في مقدمة القرارات:" الذي يعطي الحق للشعوب العربية المستقرة على الارض السورية بان تتحد لتحكم نفسها بنفسها، بصفتها تشكل امة مستقلة." ارسل مجلس الادارة وفدا ثالثا الى مؤتمر الصلح.

فرض مؤتمر سان ريمو 1920 الانتداب على البلاد التي انفصلت عن الدولة العثمانية، فجاءت ردات الفعل عليه عنيفة من العرب الذين اعتبروا انفسهم في حالة حضارية تسمح لهم حكم انفسهم بانفسهم، ولأنه يشكل خطرا على سيادتهم، ورفضوا ايضا فصل فلسطين عن سوريا. واتهم الوطنيون السوريون العناصر المعتدلة في الحكومة بالخيانة.

حاول روبير دو كاي de Caixامين عام المفوضية الفرنسية اقناع اعضاء الوفد اللبناني في باريس بالتخلي عن ضم بيروت وطرابلس وتحويلهما الى ادارتين بلديتين، فيرضي بذلك السنة فيهما والسوريين في آن معا. انما من دون جدوى. وباتت المواجهة حتمية بين الفرنسيين والوطنيين السوريين بعد ان فشلت كل الحلول السياسية.ثم حصلت موقعة ميسلون وانتهى حكم الامير فيصل. واعلن غورو في 1 ايلول 1920 انشاء دولة لبنان الكبير.

_______________________________________


مداخلة د. عبد الرؤوف سنّو: كتاب د. أنطوان الحكيّم

من متصرفية الجبل إلى دولة لبنان الكبير 1914 - 1920

 

استهل الدكتور عبد الرؤوف سنّو مداخلته حول كتاب دكتور أنطوان الحكيّم، بالقول إنه جاء في الوقت المناسب، حيث يتعرّض لبنان الكبير إلى الهجوم من قبل البعض، واعتباره مخلوقًا استعماريًّا. وتساءل من أين نبدأ أذا بتاريخ لبنان الحديث؟ هناك اعتراضات على لبنان الفينيقي، وعلى لبنان فخر الدين المعني الثاني؛ و"لبنان المتوسّطي"، كما على الثقافة العربية ما قبل الإسلام. ورأى سنّو إنه لولا لبنان الكبير، لما وجد اللبنانيون، مسلمون ومسيحيون، فضاءً كيانيًا يوصلهم إلى "الميثاق الوطني". وأضاف: كل مشيخات الخليج العربية التي تشكلت على يد بريطانيا، وأخرى على يد فرنسا، تحتفل، بكل كرامة وعزّة، بعيدها الوطني الذي منحها إياه الاستعمار. فلماذا يصح هذا هناك، ولا يصح هنا.

وفي موضوع المجاعة في جبل لبنان، طالب سنّو بعدم التلاعب بالأرقام، لأنها تسيء إلى ذكرى الضحايا، والاعتراف بالمأساة التي حلت بهم، سواء أكانوا نصف سكان المتصرفية أو ثلثهم أو ربعهم، أو حتى وإن سقط واحد منهم في شوارع بيروت.

وحول مساعي الموارنة للاستقلال عن الدولة العثمانية بدعم فرنسي، رأى سنّو أن ذلك عمل مشروع بعد احتلال دام 400 سنة ومعاملتهم كأهل ذمة. وتساءل: كيف يحق للحركة القومية العربية والشريف حسين أن يحصلا على دعم دولة استعمارية هي بريطانيا، لتكوين دولة عربية، ويُعتبر ذلك محقًّا، فيما يُنظر إلى استعانة مسيحيي الجبل بدولة استعمارية، هي فرنسا، خيانة؟ وأعطى سنّو مثالًا آخر على سعي أعيان لبنان وسورية المسلمين إلى تأسيس دولة عربية مستقلة، عندما أوشكت الدولة العثمانية على الانهيار أمام روسيا في الحرب بينهما العام 1878. فلم يوصف هؤلاء بالخيانة، وسُميت حركتهم بـ "الاحترازية". ووجد سنّو أنَّ أحدًا لم يعترض على طلب المسلمين في لبنان وسورية وفلسطين الانتداب الأميركي عليهم، بينما هناك استهجان لطلب الموارنة الانتداب الفرنسي.

وعطفًا على مقولة الحكيّم بأن المسيحيين في الدولة العثمانية تعرضوا للاعتداء من قبل المسلمين، كلما لحقت الهزائم بالسلطنة على يد أوروبا، أكّد سنّو صحة ذلك، وأن المنحى اشتد، مع تبني السلطان عبد الحميد الثاني سياسة "الجامعة الإسلامية" التي كانت ترفض كل ما هو مسيحي أو غربي.

وحول "الطائفية المجتمعية" و"التعددية الثقافية" في لبنان، رحّب سنّو بالأولى، شرط أن تكون تحت سقف نظام سياسي موحّد، أي كما كان الحال عليه قبل العام 1840: طائفية مجتمعية من دون طائفية سياسية = خصوصية لكل طائفة، ونظام طائفي لا سياسي، أي على شاكلة الصراع الحزبي: اليمني – القيسي. وختم بالقول: "لا شيء يخدش العروبة، إذا كانت الهوية العربية والثقافة العربية هي وجه من أوجه هوية لبنان وثقافته، وليست كلَّها"؟ وأضاف: إنَّ كثير من الأعراق غير العربية تفاعلت مع العروبة طواعية، وانخرطت فيها أثّرت فيها، فلماذا لا يحقّ للبنان أنْ يتأثّر بثقافات أخرى". وختم: "إنّنا نعيش اليوم في عصر انفتاح الثقافات على بعضها".

_________________________________