تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

تكريم أمين الباشا

الثلاثاء 2008/3/4

 كلمة المحامي جورج بارود

 كلمة جمانة حداد

 كلمة الفنان أمين الباشا  

 

تكريم أمين الباشا

 

 

 

كلمة المحامي جورج بارود  

        بيروت اليوم تختلف كثيرًا عن بيروت الامس.

        فهي اليوم عاصمة الشوارع الواسعة والابنية الفخمة، شيدت متاجرها ومكاتبها لكبار رجال الاعمال، وأنشئت مطاعمها وملاهيها لطبقة من الميسورين محددة جدًا.

 

        أما بيروت الامس، فكانت موئل الفنانين والشعراء، والصحافيين والتجار، والصنّاع وأصحاب المهن الحرّة؛ فيها يختلط الغني بالفقير، والمثقف بالاميّ، وبين أروقتها يلتقي اللبنانيون على مختلف مشاربهم ومذاهبهم.

 

        باختصار كانت بيروت عاصمة كل لبنان، فأصبحت اليوم مركزًا لحفنة من الاثرياء، جلّهم من أبناء الخليج العائم على النفط.

 

        في رحاب بيروت الشعر والثقافة، كانت المواسم الذهبية للبنان تتوالى؛ وفي العام 1932 تحديدًا ولدت عين ثاقبة وقلب نابض، طوّعا الريشة والقماش ونقلا النبوغ اللبناني إلى متاحف أوروبا وبعض البلدان العربية، يومها ولد مكرمنا الفنان أمين الباشا.

 

        منذ الخامسة عشرة من سنيه بدأت ملامح التأثر بالفن تظهر على ملامح أمين لشغفه بالفنان الهنغاري ستيفان لوكوس الذي كان يسكن بيروت آنذاك، ولا غروَ في ذلك باعتباره كان يرافق خاله الرسام والموسيقي خليل مكنية، مما شجعه على الالتحاق بالاكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا) ثم متابعة دروسه بعد تخرجه منها عام 1957 في المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة ثم في La Grande Chaumière 

مع هنري غوتز.

 

        وبعدها بدأ التعليم في الـ (ألبا)، والجامعة اللبنانية- معهد الفنون الجميلة وفي إيطاليا والكويت وعمّان.

 

        أيها السادة،

        لقد دأبت حركتنا الثقافية في أنطلياس في كل مهرجان سنوي للكتاب، على تكريم فنان تشكيلي إيمانًا منها بأن هذا الفن هو من أرقى درجات الثقافة، خاصة عندما يكون المكرّم قد أغنى المتاحف عطاء وأبرز صورة لبنان وأغنى المتاحف المحلية والعربية والاجنبية، وبات ممن يتصدر عالم الحداثة في هذا الميدان.

 

        فمن صالونات بيروت ومصر والكويت والاردن، إلى متاحف فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ولندن تنقل أمين الباشا بروائعه، ومن جريدة محلية أو أجنبية إلى محطة إذاعية أو تلفزيونية، ومن معهدٍ عالٍ أو كلية جامعية، ومن لوحة على القماش إلى قطعة من الموزاييك أو جدرانية أو سجادة تحفة، كان أمين الباشا ينقل بإلهامه وأنامله وريشته عصارة وجده وإحساسه واكتنازه، ويترجمها صورًا تعظم الخالق وتخلّد الجمال وتنشر في كل مكان مجد لبنان.

 

        في يومك أيها المكرّم الاستاذ أمين الباشا، يعود بنا الزمان إلى لبنان المرتجى، إلى الوطن الذي كان، يوم كانت المتاحف تنتشر على مدى العاصمة ويوم كان الناس يتسابقون على شبابيك الصالات لحجز كرسي لحضور مسرحية أو مشاهدة فيلم سينمائي، يوم كانت بيروت تعج بالامسيات الشعرية ومحاضرات الندوة اللبنانية، والنشاطات الفكرية والثقافية والمعارض ولقاءات الحركات الطلابية والنقابية.

 

        في يومك، نعود ولو للحظات إلى وطن كان واحة الشعراء والفنانين والمفكرين، إلى زمن البحبوحة الفكرية والمادية، إلى قطعة الجمال والحب والثراء التي كوّنها الله فشوهناها وجعلنا منها مرتعًا للبشاعة والحقد والفقر.

 

        ولانك تعيدنا إلى تلك الايام الخوالي،

        ولانك ساهمت في جعلها كذلك فرفعت اسم لبنان،

        نكرمك.

 

 

تكريم أمين الباشا

 

كلمة جمانة حداد  

حضرات السيدات والسادة، أيها الحفل الكريم

 

"ليس لرسّامٍ من أعداءٍ جِديين وحقيقيين إلاّ لوحاتُهُ السيّئة"، يقول هنري ماتيس.

يطيب لي أن استهل هذا اللقاءَ العزيز على قلبي بهذا الاقتباس، وأن استدرجه الى حيث نحن، وإلى لوحة أمين الباشا تحديداً، لكي أقول:

ليس لهذا الرسّامِ الجالسِ بيننا اليوم، من أعداءٍ جِديين وحقيقيين، إلاّ البشاعة. فهو لم يعادِ في حياته الشغوفة هذه إلاّ البشاعة. ولم يعشق إلاّ عشقَ الجمال، ولم يُنجِز في مسيرته الفنية الطويلة والمتواصلة إلاّ الجمال. لهذا السبب بالذات، عندما تشاهدون لوحته لا بدّ ستقعون في الفخّ. فهي لوحةٌ تخطف الأبصارَ والألباب لأنها موصولةٌ بفلسفةِ هذا الجمال.

وإذ تتيحون لي فرصةَ أن أكونَ بينكم في هذا التكريم، فإن من المفارقات النقدية أن أتولّى بصفتي شاعرةً ومسؤولةً ثقافيةً، وعاشقةَ لغاتٍ وآداب، تقديمَ رسّامٍ راسخٍ كهذا الرسّام، لا يحتاج الى تقديم، وخصوصاً في الحركةِ الثقافية - انطلياس، هذا البيتِ الثقافي العريق الذي لا يحتاج هو الآخَر الى من يُلقي عليه تحيةَ تقدير، من فرطِ التقديرات المستحقة التي تنهمر عليه من كل حدب وصوب.

وإذا كنتُ أراني أتحدث في لوحة الباشا، فإني أريد لمداخلتي هذه أن تكون شهادةً في عشقِ الشعرِ للرسم، وفي التبادل الجمالي بين هذين الإرثين الإبداعيين، باعتبارِهما ينتميان الى فلسفةٍ واحدة هي فلسفةُ الجمال. 

 

أيها السيدات والسادة،

ليست مهمتي النقدَ التشكيلي، وليس لي أن أخوضَ في غمارِه المعياري والتقني، بحثاً عن مفاتيحه وأدواته، وكشفاً لتجلياتِها في لوحةِ أمين الباشا، فأنا شاعرة، وسأنظر في هذه اللوحة بهذه العدسة الشعرية ليس إلاّ.

ذلك أن مهمتي هنا ليست الدفاعَ عن لوحةٍ ممهورةٍ بتوقيعِ أمين الباشا، أمضت، وإياه، نحواً من خمسينَ عاماً في تدويخِ الجدران التي تحتلُها، وإغواءِ العيون التي تنظر فيها واليها.

بل أنا هنا الى جانبِ أمين الباشا، ومعه، لأني أحبّ هذه اللوحةَ بحواسي، ولأني أنحاز اليها انحيازاً جمالياً وفنياً، باعتبارِها فعلاً جمالياً ينتمي الى الرسم الصافي، على غرار الشعر الصافي، والموسيقى.

وعندما يجري الحديثُ على الرسم الصافي، فعليَّ أن أسارعَ الى توضيحِ مسألةٍ في غاية الأهمية. إليكموها: أن يرسمَ الرسّامُ ما يراه، أيها السيدات والسادة، فهذا ليس إنجازاً مهماً، وهو لا يعطينا أن نصفَه بالرسّام الكبير.

الرسّامُ الكبير هو الذي يرسم ما سنراه، لا ما رأيناه.

على هذا المنوال من الحديث أتابع القول: على كلِّ رسّامٍ، كلِّ شاعر، كلِّ روائيّ، كلِّ موسيقيّ، كلِّ عاشق، أن يكون مبدعاً كبيراً في مجاله، لا "مفيداً" فحسب. شرطُ الفائدة ضروريّ لكنه لا يكفي. عليه أن يُنجز شيئاً يتخطى الفائدةَ الملموسةَ المرجوّة منه: وأعني أن يصنع الجمالَ. وأن يخلقَه. فائدتُهُ مرتبطةٌ حكماً بخلق الجمال. وآنذاك فقط يكون خلاّقاً.

أمين الباشا، لأنه لا يكتفي برسم ما يراه، بل يرسم ما سنراه، هو خلاّق، وهو صانعُ جمال. ولأنه كذلك، وبسبب الرسم الصافي لهذا الجمال، هو رسّامٌ كبير.

لهذا السبب أنا أنحاز الى لوحته التي تنتمي الى الجمال، وهو هنا الرسم الصافي.

بل أنا أنحاز الى هذه اللوحة، للغواية التي لا تني تخلقها في العين من جديد. هي غوايةٌ حواسية، شهوانية، دنيوية، صحيح، لكنها عميقة، جوانية، تجعل العين أشبه ما تكون بحالة سكر وانخطاف وبصبصة خارقة. تماماً كحال الناظر الى معشوقه، يرى ما سيراه فيه، لا فقط ما يراه.

هي في هذا المعنى، غوايةٌ غيرُ خادعة وغير ملفَّقة. لأنها لا تكتفي بالحواس وشهوات الحواس ودنيويتها. بل هي موصولةٌ بفلسفةِ اللذة. لذّة الرنوّ بالعين. وعندما تؤخذ العين بهذه اللذة، فإن مفاعيلَها تسري ليس في الجسمِ وحواسِه فحسب، بل هي تسري في الأنحاءِ كلِّها، حتى ليصيرَ التعاطي تعاطياً وجْدياً ووجودياً، كحال التعاطي بين الناظر والمنظور، بين الهواء والرئتين. والله أعلم.

هذا يدفعني في الرسم الى الحديث عن أحوالِ النفس لا الاكتفاء بأحوال الواقع والرؤية والحقيقة فحسب. فأنْ ترسمَ أيها الرسّام، فهذا يعني أنكَ تُدخِل في اللوحة ما ستراه، لا أن تكتفي بما تراه. هكذا تقترب اللوحة من الماوراء والمابعد. وهو الإضافةُ الموصولةُ بفلسفةِ المطلق في عملية الرسم هذه. وهي نفسُها فلسفةُ الجمال.

 

أيها السيدات والسادة،

هذا التصور ليس فحسب تأويلاً شخصياً يخضع للانفعال بلوحة الباشا. فهو عمليةُ استدعاءٍ لمعايير الجمالية الفنية في فهم اللوحة.

إنها ميراثُ موهبةٍ بصرية، ويدوية، وخبراتٍ واختبارات، وعلوم، ودراسات، ومقارنات، وتجوالات في الطبيعة والمخيّلة، والذات، والثقافة التلوينية، وقد بنت نفسها، يوماً بعد يوم، حتى وصلت الى ما وصلت اليه من مكانةٍ تمتلك من المكوّنات البنائية واللونية ما يجعلها قادرةً على النطق بكفاءتيها التشكيلية والدلالية على حد سواء.

فماذا يفعل أمين الباشا بسطحه التشكيلي، وبالفضاء، لكي يكونا على ما هما عليه من متانة وجمال، ومن أين يأتي بسرّ لوحته، كي يكونَ لها ما يكون في الحياة التشكيلية اللبنانية والعربية، كما في النظرات التي تستولي عليها وتجعلها وقفاً بصرياً ووجدانياً كثيرَ التجدد والديمومة؟

أقول إن سرّ هذه اللوحة، يكمن أولاً في إيمانها بالجمال، جمالِ الواقع، والطبيعةِ، والناس، والذات. ويكمن في قدرتها على استخلاصِ لذةِ هذا الجمال.

وأقول أيضاً إن سرّ هذه اللوحة يكمن في عدمِ ادعائِها الحداثي، ليس لأنها غيرُ حديثة، بالعكس، بل لأنها لم تؤخذ بالشعاراتِ الفضفاضة التي راجت في الغرب خلال مراحلَ مختلفة من القرن العشرين، ودعت الى التنكرِ للجمال، وإفسادِ اللذة فيه، وإفراغِ اللوحةِ من مضامينها الحيوية، سطحاً ولوناً وبناءً، والتخفيفِ من غلواءِ وجدانياتِها الموضوعاتية واللونية، نزوعاً نحو سطحٍ يبتغي الاختبارَ والتجريب، باعتبار أن هذين الاختبار والتجريب لا بدّ أن يفضيا الى ما يفتح ثغرةً في السطح التشكيلي المسدود. لكن أمين الباشا، وإن مارس الاختبارَ والتجريب، لم يتنكر للجمال، ولم ينزلق في ما انزلق فيه غيرُه، هنا وفي العالم العربي، او في الغرب، مشدِّداً على ان اللوحةَ التشكيلية لم تصل الى طريق مسدود، وأن ليس في سطحِها وفضائها ما يدعو الى كسرِ الجدارِ المزعوم، الماثل أمامَها وفيها. فهو، آمن بأن الحداثة كامنةٌ في اللوحةِ نفسها، وفي اختبارِها لذاتِها، وفي فتحِ أغوارها، وفي تأنيثها، وتأثيثها، بالأشكال والألوان، التي تمنحها القدرةَ على الاستمرار والتأويل. وقد نجح في ذلك نجاحاً متكاملَ المعنى، فلم تراوح لوحتُه مكانَها، ولم تقع في المجانية. وهذا هو أحدُ أسرارِها الكبرى.

عدمُ المراوحة، ورفضُ المجانية، أفضيا الى مكانٍ ثانٍ، بل الى مكانةٍ ثانية، قوامُها امتزاجُ خبراتِ الماضي بتطلعاتِ الحاضر، وتزاوجِهما الطبيعي والمنهجي، فوقَ سطحٍ تشكيلي لا يتنكر للآباء ولا يقفل البابَ على الحداثة. من هذا المطرح بالذات، يمكن فهمُ أحدِ أسرارِ لوحة الباشا. هو سرٌّ يعرف الإرثَ، ويعرف كيف يجعله حديثاً.

لا يتنكر الباشا للطبيعة، ولا يتنكر للموضوع، ولا يتنكر للواقع. عدم التنكر الثلاثي هذا، جعله يؤمن بأن تطويرَ اللوحة يكمن هنا بالذات. في هذه الطبيعة. في هذا الموضوع. وفي هذا الواقع. ولأنه آمن بهذا الفهم التشكيلي، فقد راح يعمل على منحِ هذه المكوِّنات ما يجعلها قابلةً للعيش في الراهن. وها هنا تكمن الغواية التي انشغلت بها لوحةُ أمين الباشا. حتى ليمكن جعل هذه الكلمة مفتاحاً لا بدّ منه لولوج اللوحة. فلنسمِّ هذه اللوحة: غواية الباشا. وأيّ غواية، وأيّ باشا!

 

أيها السيدات والسادة،

يأخذ البعض، بعضُ الفنانين والنقّاد والمثقفين، على لوحة الباشا أنها لا تثير أسئلةً إنسانية، ولا تقضّ، ولا تتألم. بل يأخذون عليه أنه لا يرسم إلاّ الفرح متناسياً الأهوال والمآسي والكوارث. قد يبدو هذا صحيحاً للوهلة الاولى. لكن، لا. فهي تثير سؤالاً جوهرياً واحداً هو سؤالُ الجمال. وهو سؤالٌ إنساني بامتياز. بل هي تثير سؤالاً يتحدى المأساة البشرية المنحدرة الى جحيمها، عبر إيمانه بالفرح. وهو سؤال اللذة مطلقاً. بما فيه من غواية. أعني لذةَ اللوحة كقيمةٍ بصرية بامتياز. وهل يكون بصرٌ بدون عمقِه الإنساني والوجداني؟ وهل تكون لذةٌ بصرية بدون شخصٍ متلذّذ يمثل وراءها، مبصبصاً على هذا الجمال البصري، في الطبيعة، في الناس، في الشارع، راسماً إياه بالخطوط والأشكال والألوان، بل خالقاً إضافاته التي لا يراها في الواقع الأصلي، لكنه يصير يراها، ويجعلنا نصير نراها؟!

وقد تسألونني الآن لماذا أختار لوحة أمين الباشا؟

بسيطة: أنا أختارها لأنها تنتمي الى شيء أسمّيه في الفن التشكيلي الواقعيةَ السحرية. على غرار الواقعيةِ السحرية التي اخترعها في الرواية كتّابُ أميركا اللاتينية.

هي لوحة أجرؤ أن أقول إنها واقعية. لكنها ساحرة.

تظن العين أن اللوحة واضحة، مفهومة، سهلة المتناول. وأنها جميلة. لكنها في الحقيقة أكثر: إنها ساحرة.

الساحرة لأنها تسرق روحََ الناظر اليها. ولأنها تكذِب. تُوهِم. تُسكِر. تُذهِل. تخلُب. تطوِّش. وتدوِّخ.

الساحرة لأنها تسحر فتُوقعنا في تزيين النزق، وتُرينا ما نعتقد أننا نراه فنصير نشعره ونراه.

هي الرؤيةُ نفسها التي تعترينا عندما نقع في سحر الحب.

لهذا السبب، أجزم أن أمين الباشا - مسحوراً بالجمال - لا تستطيع لوحتُهُ أن تتصنّع. يدُهُ غريزة. وسحريتُه الغريزية هي السبّاقة الى اقتناص الجمال ولذته، لأنها سحريةٌ واقعية وغرائبية.

هو يصنع السحرَ من الواقع، وفي الواقع. ويسحر.

وعندما يمارس الرسّامُ السحر، يصير المشهدُ أكثرَ من مشهد، وأكثرَ من لون، لأن العينَ تصيرُ ترى أكثر.

ما هو السحر؟ ما هو الحبّ؟

أهو فقط الجمال؟ الانسجام؟ الكيمياء؟ اللذة؟ الحقيقة؟ الوهم؟ الصدق؟ الذكاء؟ الخبرة؟ التلوين؟ الهندسة؟ البناء؟ التركيب؟ اللعب بالواقع؟ الاختراع؟ ثم الانخطاف والسفر على بساط الجنّ؟

ربما هذا كلّه معاً، وفي آن واحد.

ولماذا أمين الباشا؟ أسأل، وأجيب: لأنه يكره البشاعة. ويتلذذ بعشق لذة الجمال.

وأختم: لأنه ساحر. ولأنه أيضاً، لأنه خصوصاً، مسحور.

 

كلمة الفنان أمين الباشا  

 

اعتذرت مراراً لِمَن دعاني ليكرّمني متسائلاً عن معنى التكريم لرسام.

 

العمل الفني الذي هو عمل عمر بكامله، لا يكتمل ولا ينتهي. اللوحة إذا تعبت من الرسام، فاللوحة التي تأتي بعدها، تأتي لتنتقم منها، وهكذا المرسم في هدوئه هو دائم في عراك بين ما يصبو إليه الرسام وبين ما يصل إليه في إنهاء لوحة لا تنتهي، بل تنضم إلى سلسلة الأعمال السابقة. حاملةً الأمل بالوصول إلى الكمال الذي لا يصل إليه الفنان.

 

الفنان يكون فناناً قبل مولده. هو يولد فناناً دون إرادته. الإنسان لا يقرّر هو نفسه أو غيره أن يكون فناناً أو يصير فناناً. إن درس الفن، فدراسته تجعل منه متذوقاً وليس فناناً.

 

لست أدري لِمَ أتكلم عن الفن فقط، وقد ابتدأت الكلام عن هذا التكريم. هل هو ضعف مني قبول التكريم الذي خصّتني به الحركة الثقافية في إنطلياس؛ أم هدية منها أتقبّلها شاكراً، هذه ليست أسئلة، بل أن تقديري للقيّمين على هذه الحركة الثقافية يفوق كل شكر وامتنان.

 

كم أحلم أن يتكرّم الفن في بلادي، وينزاح عنه الرّديء منه، وقد عشعش في هذه الأيام في كل زاوية من زوايا الوطن.

 

تكلمت عن التكريم، أعتقد أن تكريم الفنان هو تكريم للناس جميعاً. وتكريم الناس يتمثل في نشر الفن وبناء المتاحف والمسارح والفرق الموسيقية عالية المستوى. وقبل أن تُبنى المتاحف والمسارح والفرق الموسيقية، يجب بناء أشخاص ليصيروا مؤهلين لإدارة هذه المعابد الفنية السّامية، التي لا سبيل لذكرها الآن، أما ما يجب عليَّ ذكره هو شكري لمن أراد تكريمي، راجياً أن أكون أهلاً به، وأهلاً وسهلاً بكل من أتى لمشاركتي بهذا التكريم.