ندوة حـول كتـاب

مذكِّرات فؤاد بطـرس

 

 كلمة جورج أبي صالح
كلمة النقيب رمزي جريج
كلمة الدكتور باسم الجسر


كلمة جورج أبي صالح 

أيها السيدات والسادة،

" مذكِّرات فؤاد بطرس" ليست مؤلَّفاً جديداً يضاف الى المكتبة اللبنانية، بل هي حدث سياسي بامتياز. فالرجل غير عادي، وأداؤه في الحكم والمعارضة، داخل السلطة وخارجها، اداء استثنائي خارج عن المألوف، والعهودُ التي استحضر تجربته فيها حقباتٌ هامة في تاريخ لبنان الحديث.

                    

أما الرجُل، فرجلُ دولة. وحين يتسنّى للمرء تعميق معرفته بشخصيّته الفذّة وتوثيق صلاتـه به، يُدمن مجالسته، وقلّما يعود يرغب في محاورة بل محادثة غيره من السياسيّين اللبنانيّين، لأن رجال الدولة بينهم قلّة، ولأنّ العقلانية عند معظمهم غائبة، والتواضع مفقود، ولأنهم يزعمون امتلاك المعرفةِ كلّها والحقائق كلّها، ولأنّ همّهم الأولَّ، إن لم يكن الأوحدَ، هو الوصول الى المناصب، أيّاً تكن الوسيلة، ولو مُذلّةً، وأيّاً يكن الثمن، ولو مصيرَ وطن وشعب.

 

وسط هذا المشهد القاتم، تلمع صورة فؤاد بطرس : توليفة موفَّقة من الحكمة والحنكة، والنزاهة والترفّع، والاعتدال ونفاذ البصيرة. صاحب تحليل شمولي لكلّ موقف راهن، بخلفيّاته الماضية وآفاقه المستقبلية المشرّعة دوماً على احتمالات عدة. صاحب الرأي السديد الذي لا يتوانى عن الاستعلام  والاستفسار، لا بل عن طلب المشورة، لئلا تفوته أية جزئيّة قد تحجب عنه سلامة الرؤية، فتمنعه من صوابيّة الحكم.

 

فؤاد بطرس هو في حالة بحث متواصل عن الحلّ الأسلم والأنسب والأنجع لمعضلاتنا السياسية، عن الحلّ الذي يخدم مصلحة الوطن، ويؤمّن الخير العام، ويُرضي الضمير، ويحفظ الكرامة. لأجل ذلك، نراه في حالة تعب دائم، وقلق دائم.

 

فؤاد بطرس رجل التزم جملة قيم ومبادىء في تعاطي الشأن العام، فكان أن فرض بنفسه على نفسه مجموعة من المعايير والشروط لتولّي المسؤوليات العامـة : أوّلها عدم الجمع بين العام والخاص، وثانيها الحرص على بناء دولة تمهيداً لقيام وطن. أما دولته، فهي دولة القانون، والحق، والعدالة، والديموقراطية، وحقوق الانسان. دولةُ الاستقلال والسيادة، التي تحتكر وحدها، إدارة المرافق العامة، وسلطة القضاء، ورسم السياسة الخارجية وحمل السلاح على كامل التراب الوطني حفاظاً على أمن المواطن، وصوناً للسلم الأهلي، وذوداً عن كيان لبنان.

 

          ولبناء هذه الدولة المنشودة، سبيل أوحد : نظام سياسي ديموقراطي قائم على التوازن والتآلف والتوافق بين مكوّنات نسيج المجتمع اللبناني. وعليه، فلبنان فؤاد بطرس يُصنَع كلَّ يوم من خلال جدليّة الحوار المتواصل بحثاً عن/ وسعياً الى تسويات تصون وحدة هذا الوطن ذي التركيبة التعدّدية، بحيث يغدو التعدّد بل التنوّع مصدر إثراءٍ للعيش المشترك، وليس مبعثاً لنزاعات داخلية متواترة.

 

على أن فؤاد بطرس، بواقعيّته السياسية، أدرك أن لبنان الديموقراطي لا يزال كياناً وطنياً هشّاً، ودولة بالقوة لا بالفعل، وسط محيط من الأنظمة الاستبدادية والتيوقراطية، حيث تتداخل وتتصارع المصالح الاقليمية والدولية. فرأى أنه لا بدّ من بناء سياسة لبنان الخارجية على أساس هذا المعطى المعقَّد، وفق نهج حيادي بعيد عن المحاور المتنازعة، خشية أن يدفع لبنان الضعيف ثمن صراع الأقوياء.

 

تلك هي الأمثولة التي لم يتعلّمها سياسيّونا، أو أنهم بالأحرى ما شاءوا أن يتعلّموهـا، ولا أن يهتدوا بهديها. فانساقوا في تبعيّات شديدة للخارج، مستمدّين منه الدعم والتمويل، وراحوا يتربّعون على عروشهم الزائفة والزائلة، متوسِّلين إثارة الغرائز والانفعالات، وتأجيج النعرات الطائفية والمذهبيّة، مهدّدين الوطن في كينونته والدولة في تكوُّنها الجنيني، غير آبهين بمعنى لبنان، وفرادة وجوده وحضارية رسالته.

 

مذكِّرات فؤاد بطرس فصل من سيرة وطن، يُقرأ من خلال سيرة رجل، ذي قامة وطنية كبرى، قال كلمته ومشى. فأحجم باكراً وطوعاً عن مراكز الحكم والسلطة، ليس ادّعاءً بزهد، بل يقيناً من أن وجود المرء في السلطة لا معنى له ولا قيمة، إن لم تكن لديه حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية المشاركة في التقرير.

 

لذا آثر فؤاد بطرس الابتعاد لا الانزواء، فظلّ تلك السنديانة اللبنانية العريقة، التي يهرع الأوادم للتفيّء في ظلّها طلباً لشيء من الطراوة، وهرباً من شدّة القيظ في بيئتنا السياسية وحياتنا العامة.

 

أستاذ فؤاد،

حسبُك أنه نادراً ما أجمع اللبنانيون على احترام رجلٍ سياسي مثلما أجمعوا على احترامك، سواء اتَّفقوا معك في الرأي أم اختلفوا. فاسم فؤاد بطرس بات رمزاً للصمود الديبلوماسي في زمن الوصاية والاحتلال، وعنواناً للاستقامة وحسّ المسؤولية الوطنية في ممارسة الحكم.

 أما مذكِّراتك، فكتاب يجدر اعتماده مرجعاً في كليات العلوم السياسية والعلاقـات الدوليـة.

 ونحن، في الحركة الثقافيّة - انطلياس، يشرّفنا أن ننتسب الى نادي أصدقائك ومحبّيك وقادريك، وأن نستقبلك اليوم ضيفاً عزيزاً مكرّماً على منبرنا.

 أدامك الله للوطن ذخراً، ومرجعيّةً وملاذاً. وشكراً لك على هذه المذكّرات الزاخرة بالإنجازات والعبَر.

 

كلمة النقيب رمزي جريج  

 

ايها الحفل الكريم،

 

          من النادر أن تَروي سيرةُ رجل تاريخَ وطن، مثلما تروي "مذكراتُ" فؤاد بطرس سيرةَ لبنان على مدى نصف قرن تقريباً. فصاحب المذكرات لم يصل، بسبب انتمائه المذهبي حتماً، إلى المركز الأول في الدولة، ولم يكن، بسبب الظروف العامة ومزاجه الشخصي، زعيماً شعبياً يحرك الجماهير، لكنه دخل السياسة واستمر فيها ومارس الحكم خلال حقبة طويلة من الزمن، سلاحه الوحيد طيلة هذه الفترة ذكاء حاد، ورأي سديد، وبصيرة ثاقبة، وحكمة بالغة. هذه الصفات كلها أبعدته عن التوهم والأوهام، ودفعته، في ضوء خبرته الواسعة، الى التشاؤم الايجابي، الذي لا يعني اطلاقاً التسليم بالأمر الواقع والاستسلام له، بل يعني الانطلاق من معطياته سعياً للمعالجة والتغيير.

 

          تغطي المذكرات الفترة الواقعة من العام 1959 إلى العام 1982، أي منذ دخول صاحبها المعترك السياسي ملبياً نداء الرئيس فؤاد شهاب لغاية تاريخ خروجه من السياسة، التي لم تخرج منه، على حدّ تعبيره، باعتبار انه استمر بعد تركه الحكم يهتم بالشأن الوطني، وظل مرجعية وطنية، يلجأ اليها اهلُ الحكم وقادةُ الرأي كلّما تعقدت الأمور واحتاجوا إلى رأي سديد.

 

          مَنْ يقرأْ مذكرات فؤاد بطرس يدركْ كم أنّ شخصية هذا الرجل الفذّ متعددةُ الجوانب وواسعة الاتجاهات، وكم انه استطاع في جميع الاوقات، ان يُحْسِن استجماع هذه الجوانب والاتجاهات، لتوظيفها كلِّها معاً، في أدائه لأيِّ عمل تولاّه.

 

واذا كانت شخصيةُ السياسيّ ورجلِ الدولة، بحكم الدور البارز الذي لعبه على هذا الصعيد، قد طغت على سواها، فلا يجب ان يغيب عن بال احد ان صفاتِ القاضي والمحامي التي تمتع بها فؤاد بطرس قد أثرت تأثيراً بالغاً في شخصيته، إلى درجة أن تلك الصفات، وليس أقلَّها التجردُ والنزاهةُ من جهة والبراعةُ والبلاغةُ في الدفاع عن الموقف من جهة أخرى، قد تحكمت بكافة تصرفاته كوزير للعدل ثُمَّ كوزير للخارجية.

 

          وقد تكون صفات فؤاد بطرس القاضي هي ما دفعت الرئيس فؤاد شهاب إلى توزيره في العام 1959، إذ تذكر الرئيس حادثة تعود إلى العام 1946 يوم زار كقائد للجيش مع وزير الدفاع المحكمة العسكرية لتفقد اعمالها،  فسرّه جواب فؤاد بطرس، وكان قاضياً للتحقيق آنذاك، على سؤال طرحه وزير الدفاع؛ وقد أبدى من خلاله القاضي الشاب حرصه على استقلاله وعلى عدم تدخل السياسيين في القضاء.

 

          هذه الحادثة تدل على شخصية فؤاد بطرس القاضي المستقل والجريء. فأين نحن اليوم من هؤلاء القضاة الذين كانوا يرفضون أي تدخل للسلطة السياسية معهم.

 

          وإنه لمن الطبيعي أن يتحدث نقيب المحامين، الذي يعتز بانتساب فؤاد بطرس إلى نقابة المحامين، عن هذا الوجه من شخصية فؤاد بطرس والذي يبرز في القسم الأول من مذكراته ولا يغيب تماماً عن سائر الأقسام.

 

          لقد قدّر لي ان اسمع من الرئيس اوجين روسيه، الذي القى في الستينات محاضرات في معهد الدروس القضائية، الذي كان يرأسه والدي، أبلغ عبارات الثناء والتقدير على فؤاد بطرس الذي عرفه مساعداً قضائياً في المحكمة المختلطة التي كان يرأسها، سواء لناحية علمه وذكائه الحاد ام لناحية نزاهته وتجرده. وهذه الصفات تبرز من خلال عدة حوادث يشير اليها فؤاد بطرس في مذكراته، وقد أثرت في نفسه.

 

          ولقد رجّح، كما يقول، حذرُه من تدخلات السياسيين في القضاء قرارَه بترك الجسم القضائي، لأنها كانت تمَسُّ هيبته، في وقت كان يكبر في صاحب المذكرات طموحُه الى تحقيق إنجازات اكبر والارتقاء بحياته المهنية إلى درجات لم يكن الجسم القضائي ليوفرها له.

 

          وفي المحاماة حقّق فؤاد بطرس نجاحاً كبيراً بسرعة. وبحكم الآفاق المفتوحة لهذه المهنة صار على تماس مع السياسة والسياسيين. لكنه لم يتحمس للانضمام إلى تجمع سياسي او حزب، لأن مزاجه لا يتوافق والأحزاب، ولأنه لم يعرف حزباً سياسياً يحمل طابعاً غير طائفي ويستجيب في الوقت نفسه إلى ميوله الليبرالية.

 

          بعد هذه البدايات يخصص فؤاد بطرس القسم الثاني من مذكراته لعلاقته بالرئيس فؤاد شهاب مبتدئاً بقصة لقاء بينهما لم ينته، هو ذاك الذي حدث لأول مرة في ايلول
سنة 1959 والذي اختصر خلاله الرئيس شهاب نظرته إلى الحكم، اذ قال لفؤاد بطرس "نحن لم نتمكن بعد من بناء وطن بمعنى امة، يجب ان نسعى إلى انشاء دولة سليمة، حتى اذا تمكنا من ضمّ اللبنانيين اليها، يصبح ممكناً ان نرتقي إلى وطن".

 

          بدءاً من هذا اللقاء انطلقت مسيرة فؤاد بطرس في الحكم وفي عالم السياسة، فعُيّن وزيراً للتربية والتصميم في العام 1959، ثم خاض الانتخابات النيابية في العام 1960 وفاز عن المقعد الآرثوذكسي في الأشرفيه، وانتخب نائباً لرئيس المجلس النيابي، إلى ان عيّن في العام 1961 وزيراً للعدل، فواجه، أولَ ما واجه، إضراب المحامين المستمر منذ 17 نيسان 1961 احتجاجاً على تدريس الحقوق في الجامعة العربية خلافاً للقانون، الذي كان يحصر تدريس الحقوق في الجامعة اللبنانية، فحاول ايجاد تسوية لهذه الازمة؛ غير انه لم يتمكن من التوصل إلى حلًّ مرض، إلى ان قام الحزب السوري القومي الاجتماعي بمحاولة انقلاب خضّت البلاد، فدفعت بالمحامين إلى تعليق اضرابهم والانهماك في الدفاع عن آلاف المعتقلين الذين امتلأت بهم السجون.

 

          وهنا يروي صاحب المذكرات قصة الاعتقالات التي شملّتْ آلاف الأشخاص، ثم التحقيقاتِ والمحاكماتِ التي خضع لها القوميون، لافتاً الى بعض التجاوزات التي حرِص شخصياً بما مَلك من طاقة وصلاحية على التصدي لها، ومشيراً إلى اصراره منذ اللحظة الأولى على ضرورة احترام الأصول القانونية، باعتبار أنَّ تنشئتَه في ظل القضاة الفرنسيين وممارسته للقضاء على مدى اربع سنوات علّمتاه أن نزاهة القضاء وحياديته هما المؤشر الأول على رقي الشعوب وهيبة الدول.

 

          ولم تمنع محاولة الانقلاب وزير العدل فؤاد بطرس من القيام ببعض الاصلاحات في القضاء، فأجرى في مطلع العام 1962 حملة مناقلات واسعة شملت مائة وستة وعشرين قاضياً، وسعى إلى ما يضمن تحديث الجسم القضائي على المدى البعيد، فعمد الى تنفيذ مشروع معهد الدروس القضائية بغية إعداد القضاة الجدد لكي يكونوا على المستوى المطلوب. وبانتظار أن يخرّج هذا المعهدُ الدفعةَ الأولى من القضاة الجدد قام الوزير بطرس بتعيين ثمانين قاضياً، اختارهم من بين المحامين. ولقد أثبتت الأيام ان معظم من عينهم كانوا على مستوى كبير من الجدارة والنزاهة، وقد اختير بعضهم فيما بعد لأعلى المناصب القضائية مثل فيليب خيرالله ومنير حنين وغيرِهما.

 

          وينهي الوزير فؤاد بطرس القسمَ الثاني من مذكراته بفصلين ممتعين. الأول عن أسطورة التجديد والثاني عن شهاب والشهابية، فيستهل هذا الفصل الأخير بالقول: "سوف يبقى فؤاد شهاب في مخيلتي ذاك المارد الذي اقترنت احلامه ومواقفه واقتناعاته بأعمال ومشاريع ملموسة حاولت في مرحلة من الزمن وضعَ أسس ثابتة للبنان كدولة تؤمن تطلعات جميع أبنائه". ثم يخصّص فؤاد بطرس القسمَ الثالث من مذكراته لما أسماه العهد الشهابي الثاني، أي عهد الرئيس شارل حلو، الذي أَمَلَ بطرس أن يكون امتداداً لعهد الرئيس فؤاد شهاب، في حين أن صاحبه لم يرغب في المحافظة على النهج ذاته، بل أراد التمايز عن خط فؤاد شهاب؛ وهذا ما ساعد على وصول الرئيس سليمان فرنجيه إلى الرئاسة في العام 1970.

 

          خلال عهد الرئيس سليمان فرنجيه ابتعد فؤاد بطرس عن الحكم دون ان يبتعد عن السياسة؛ فانصرف إلى ممارسة المحاماة وثبّت مكتبهُ خلال هذه الفترة مركزَه كأحد المكاتب المهمة في بيروت، إلى أن اندلعت الحرب في العام 1975، وتفاقمت الأحداث، فوصل الرئيس الياس سركيس إلى سدّة رئاسة الجمهورية في عملية انتخاب مبكر، وانغمس معه
فؤاد بطرس طوال مدة ولايته في مشروع الانقاذ واستعادة السلام الذي قاده الياس سركيس لغاية العام 1982.

 

          قد يكون القسم المخصص لهذه الحقبة هو الأمتع والأكثر فائدة في "مذكرات" الوزير فؤاد بطرس؛ فلقد كان هذا الأخير شريكاً كاملاً في الحكم مع الرئيس سركيس طوال عهده، وشاهداً على جميع الأحداث التي عرفتها البلاد خلال هذه الفترة، ولاعباً مؤثراً في مسار تلك الأحداث، من خلال مواقفه الصلبة، وعلاقاته الخارجية، ودبلوماسيته البارعة، وتفهمه للواقع الداخلي؛ فلا عجب أن يكون للقسم من المذكرات الذي يغطي هذه الحقبة من تاريخ لبنان نفعٌ كبير لا من الناحية التاريخية وحسب، بل أيضاً من الناحية السياسية، خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقة مع سوريا وبالموقف العربي والدولي من تلك العلاقة، وذلك كلُّه لأجل الاستفادة من دروس الماضي القريب وإعداد النفس لمواجهة مستقبل غامض.

 

          يُنهي فؤاد بطرس مذكراته بخاتمة يختصر فيها الدور الوطني الذي لعبه بعد تركه الحكم في العام 1982، إذ تحوّل إلى رجل سياسي حيادي يتواصل معه الجميع بغية اخذ الرأي والمشورة.

 

          وفي هذا السياق يشير فؤاد بطرس في تقييم لما حصل بعد هذا التاريخ إلى ان بناء السياسة على الأوهام والأمنيات هو أخطر ما يمكن ان يصيب المسؤول، مستعرضاً ظروف توقيع الاتفاق الثلاثي في العام 1986 وأسباب سقوطه ومرحلة تولي العماد مييشال عون رئاسة الحكومة الانتقالية، ثم المحطات الهامة من عهد الرئيس الياس الهراوي، وعلاقة الوزير فؤاد بطرس بالرئيس رفيق الحريري، مذكراً بما قاله له عندما طلب اليه القبول بالترشح للانتخابات النيابية على لائحته سنة 1996 "المشكلة أن سقف السياسة في لبنان غير عالٍ، وانا أعاني من ألم في ظهري يمنعني من الانحناء والتعايش مع هذا السقف".

 

          ويختم الوزير بطرس مذكراته باعلان بعض الحقائق التي لا يجوز، بحسب رأيه التغاضي عنها، واهمها أن أزمتنا هي ازمة وطن وكيان وأنه ينبغي معالجتها بالاستناد إلى مفاهيم تتصدى لجوهرها لا لظواهرها، وأن رابطة المواطنة يجب ان تطغَى على اي رابطة اخرى كالطائفية والعائلية.

 

*     *

*

 

          باختصار يَتَذكر فؤاد بطرس لا ليُذّكر فحسب، بل ليُحَذِر من خطر الانصياع للوهم والعاطفة والخروج عن ارض الواقع، مذكراً بقول الرئيس جون كنيدي بأن عدو الحقيقة هو الأسطورة أكثر مما هو الكذب.

 

          ختاماً،

          لعلّ افضل ما قرأت عن صاحب المذكرات التي نعقد ندوتَنا حولها هذا المساء ما كتبه السفير الفرنسي بول مارك هنري في كتابه "بساتنة الجحيم":

          "فؤاد بطرس رجل غير تقليدي ومتوحد. تخون وجهَهُ الجامدَ عينان ثاقبتان، اذا ما حدقتا بمحاوره، ازالتا عن وجه بطرس كل جمود او برودة. تسكن هذا الرجلَ قناعاتُ راسخة لجهة شروط بقاء لبنان دولةً مستقلة في وسطٍ مُعاد. عايش تقلبات العلاقة اللبنانية-السورية في حوار على مدى ست سنوات مع عبد الحليم خدام، نقيضِه في كل شيء. انه، ببرودته وظرفه، يشبه تاليران؛ غير أنه لم يتمكن، على غرار هذا الأخير، من ممارسة مواهبه في مؤتمر دولي مماثل لمؤتمر فيينا، يخرج منه لبنان مستقلاً بكل معنى الكلمة".

 

          ان مذكرات فؤاد بطرس بما تضمنته من إبراز لدور صاحبها على مختلف الأصعدة، لا سيما في عهد الرئيس الياس سركيس، جاءت لتثبت صحةَ كلام السفير الفرنسي في كتابه المذكور. لكن، لماذا كُتب على هذا الوطن الصغير، أن يكون كباره ومنهم فؤاد بطرس
"بساتنةً للجحيم"؟ وكيف لنا أن نستعيد في لبنانَ "فِرْدَوْسَنا المفقود"؟

______________________

 

كلمة الدكتور باسم الجسر  

 ألقاها المحامي جميل جبران

 

شهادة صدق وانصاف للتاريخ

1

ان المذكرات هي "كتابة صاحبها للتاريخ". ومن هنا من حق لبنان على فؤاد بطرس كتابة مذكراته. فالدور الذي قام به في حقبتين منفصليتين من تاريخ لبنان وفر له الإطلاع من داخل الحكم، ومن أعلى مستوياته، على ما لم يتوفر لكثيرين غيره، من صناع السياسة أو شهودها أو رواة التاريخ.

وكتابة المذكرات مهمة شاقة، لا سيما إذا كان كاتبها واقفاً على شرفة مطلة على السياسة في بلاده وليس ممتهنا أو محترفاً لها، ومضطراً بالتالي الى تبرير مواقفه وقرارته أمام ناخبيه أو جمهوره، مكتفيا بحكم الضمير والواجب والتاريخ.

ولقد كان من الطبيعي تركيز كاتب هذه المذكرات على الحقبة التي شارك خلالها في الحكم وزيراً شبه دائم في عهود مفصلية من تاريخ لبنان الحديث، لم يكن فؤاد بطرس مجرد وزير عابر، أو ممثل رمزي للطائفة التي ينتمي اليها بالولادة، بل كان الوزير الذي يحتاجه الحكم، تقدير الشخصيته وحكمته ومواهبه المتعددة. كما كان موضع ثقة الرؤساء، واحد ابرز مستشاريهم والمطلعين على "اسرار الدولة". وما رواه في مذكراته عن هذه الحقبة الممتدة من مطلع الستينات الى الثمانينات يمكن اعتباره مصدراً رئيسياً لمن يريدون كتابة تاريخ لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين.

ولكن قبل ان يخوض صاحب المذكرات في السياسة وشؤونها وشجونها تحدث عن نشأته وشبابه وكفاحه كطالب علم وموظف في قصر العدل ومن ثم كقاض. وفي هذه الصفحات الشخصية، اضاء على النواحي الإنسانية في تكوين شخصيته، وابرز القيم التي قادته الى النجاح، كشعوره بالمسؤولية العائلية، والعلم والإجتهاد، كمسلك في الحياة، والشجاعة في الرأي والصلابة أمام الحق. وهي قيم استدعت احترام رؤسائه له واعتراف من تعامل معهم، بجدارته واستقامة رأيه ومواقفه, وكان من بين الذين اثاره اهتمامهم اللواء فؤاد شهاب الذي استدعاه، عام 1959، لدخول الحكم كوزير، وابقاه الى جانبه وزيراً دائماً ومستشاراً مميزاً.
2

لقد تحدث صاحب المذكرات عن العهد الشهابي، بقلبه وعقله ورسم معالم النهج الشهابي في الحكم وابرز اهدافه وفي طليعتها بناء دولة المؤسسات الحديثة وتحقيق العدالة الإحتماعية. وتركيز الوحدة الوطنية على الإنماء المتوازن. كما أبرز سلبيات هذه التجربة واصطدامها بالواقع السياسي الطائفي و"الزعائمي" التقليدي. وما جاء في المذكرات عن عملية تجديد رئاسة فؤاد شهاب. ورفضه له، عام 1964، يكشف عن ملابسات وادوار اكتنفها الغموض يومذاك، ومن أهم ما جاء عن مشاركته في الحكم الشهابي، هو حديثه عن شخصية الرئيس شهاب الذي ربطته به مودة واحترام متبادلان وقيم وطنية واخلاقية وثقافية مشتركة.

 

لم يغب فؤاد بطرس عن المسرح السياسي في العهد الشهابي الثاني ـ على الأقل في السنوات الثلاث الأولى من عهد الئيس حلو بل بقي في موقع بارز ومؤثر قرب صناع القرار، ولكن الدور الأهم في حياته السياسية سوف يكون في عهد الرئيس الياس سركيس، ابان الحرب اللبنانية. كان أكثر من وزير للخارجية، في حكومات ذلك العهد. ان لم يكن الرئيس "الآخر" للحكومة كما "اتهمه البعض". فالرئيس سركيس اطلق يده في السياسة الخارجية واوكل اليه إدارة المحنة اللبنانية عربياً ودولياً . وكم كانت مهمته "مستحيلة" في خضم تلك الصراعات العربية العربية والسورية الفلسطينية، والمسيحية الإسلامية، والتدخل الإسرائيلي المباشر في الحرب اللبنانية، الذي بلغ حد احتلال لبنان وعاصمته.

كان على الثنائي سركيس ـ بطرس، ان يديرا الأزمة اللبنانية، مع وضد كل القوى المتنازعة في لبنان وعليه. وان يتلقيا سهام الإنتقاد والتهجم والتخوين والإرهاب من قبل القوى المتقاتلة والمتنافسة على السيطرة في لبنان وفي ذلك الزمن الرديء الذي ضاعت فيه مفاهيم الوطنية والعروبة والسيادة والقانون الدولي كان على صاحب المذكرات والرئيس سركيس ان يتمسكا بآخر ما تبقى من خيوط الإستقلال والسيادة والوحدة الوطنية والكرامة والدولة والشرعية.

لقد دخل فؤاد بطرس السياسة من النافذة التي فتحها له الرئيس فؤاد شهاب. وخرج من بابها الكبير، كرجل دولة ممتاز لم يستغل النيابة والحكم بل هما استغلا مواهبه وذكاءه وثقافته ورؤيته النافذة الى الأمور العامة. وكان بين الشهابيين أو النهجيين، الوجه المشرق والمعبر عن إيجابية تلك التجربة التي بات اللبنانيون، اليوم حتى الذين عارضوها، يعترفون بأنها كان المحاولة الجدية الاولى في بناء دولة الإستقلال والمواطنية اللبنانية. لو اتيح لها ان تكتمل.

3

يقول خليل سركيس، في مدخل المذكرات: "ان فؤاد بطرس متشائم، بنى أعماله على اساس الواقع، عول على العقل والقلب معاً ونبذ الغرائز والأهواء". وتكفي نظرة سريعة وشاملة على ما اصاب لبنان في الأربعين سنة الأخيرة لتبرير تشاؤم صاحب المذكرات وللتساؤل: كيف تحمل هذا الإنسان الموهوب والمثقف والحر والمستغني أثقال السياسة والحكم ومخاطرها، طيلة هذه السنوات الطويلة؟ الجواب قد يكون في أن التشاؤم ليس يأساً، وان الواقعية ليست استسلاماً، وان الوطنية ليست موقفاً فحسب بل هي ممارسة وعمل واجتهاد وتضحية.

يقول فؤاد بطرس في مذكراته: "السياسة اقرب الى الفن منها الى العلم بمعناه الضيق. وهذا الفن يتجلى في حسن اختيار الإتجاه الذي يجب على الدولة سلوكه لتحقيق الإستقلال والزدهار."

ويقول: "سياسة لبنان تقوم على التضامن العربي لمواجهة اسرائيل تحقيقاً لسلام عادل، والمحافظة على رسالة لبنان الحضارية كنقطة التقاء بين الشرق والغرب وكنموذج لتعايش الحضارات على ارضه في ظل نظام ديموقراطي سليم. رسالة لبنان هي المبرر الرئيسي لوجوده."

ومن اقواله: "آمل ان نصل يوماً الى المواطنية وجعلها تتقدم في الأولوية على أي اعتبار آخر."

ومنها: "أزمتنا"، أزمة وطن وكيان وليست أزمة ساسية عادية. ولذلك يجب معالجتها بمفاهيم ومقاييس تتصدى لجوهر الأزمة لا لظواهرها..." فلبنان مهدد في كيانه ووجوده وهويته وقدرته في ان يشكل وطناً بالمعنى الصحيح بالنظر الى تعارض بل تناقض تصور ابنائه للدولة وللوطن."

ومنها: "لا بد من تعميم الثقافة الديموقراطية على مستوى المسؤولين والسياسيين والشعب."

ومنها: " بشكل سؤال: "اي لبنان يريد اللبنانيون؟ وماذا تريد سوريا من لبنان؟"

 

بهذه القناعات خاض صاحب المذكرات معركته السياسية الكبرى ابان تسلمه وزارتي الخارجية والدفاع في سنوات الحرب. وهي معركة واجه فيها مع الرئيس سركيس ولوحده احياناً، القوى السياسية والطائفية الداخلية والإقليمية، التي مزقت لبنان، ولكنها فشلت في الغائه أو السيطرة عليه. والغريب هو ان الرأي العام اللبناني الذي يقر اليوم، بأن لبنان كان ضحية "حرب الآخرين على ارضه" كان يومذاك ممزق الجسم وضائع الآفاق. ومن هنا تصح المقولة بأن الحق حتى لولم يبق من يدافع عنه إلا قلة ، هو المنتصر في النهاية. وأن الأوطان تبنيها العقول والإرادات الحسنة والمعرفة، وتهدمها الغرائز والحزازات والأوهام. والعقائد الشمولية، أيضاً.

 

مذكرات فؤاد بطرس هي كتابة التاريخ للتاريخ. هي شهادة صادقة على مرحلتين منفصلتين من تاريخ لبنان الحديث. وهي أيضاً، استعراض موضوعي للأحداث التي عصفت بلبنان في الخمسين سنة الأخيرة، يقوم به مسؤول بارز في الحكم، يشارك في صنعها وعمل على انقاذ لبنان من تداعياتها. وجدير بكل لبناني، سياسياً كان أم مجرد مواطن، ان يقرأ هذه المذكرات. وان يتلمس من خلالها، الأسباب التي أوصلت الوطن الى ما وصل اليه، وان يتمعن في الفرص الضائعة التي فوتها السياسيون اللبنانيون الذين رهنوا انفسهم للنزاعات الإقليمية والدولية. على من أرادوا بناء الدولة الحديثة. وان يتعظ بها، لإخراج لبنان، من ازمته الراهنة وتلافي ما قد ينساق اليه من مغامرات عقائدية أو سياسية او طائفية، في المستقبل.